طَبِيبْ يجَسَّسْ عِضَاي قُلتْ: الألم في يَمينْ قال العليل: تِفتِكرني يا طبيب من الأهل خالي أنا عِزوتي مِيْتِينْ، غير عَمّي وغير خَالي طَقْ العليل مات من قُولْ الطبيب: حَق الدَوا على مِينْ..؟. العليل الذى "طَق" مات من قول الطبيب: "حَق الدَّوا على مِين..؟"، ترك خلفه أجيالاً من أبناء الجوع والقسوة والمهانة؛ أجيالاً لم تشفع لها أن عروق رقابها النافرة وعظام صدورها صارت أعمدةً خرسانيةً لناطحات سحاب، ودمها المجاني وقودًا للمدنيِّة المتمنِّعة، فظلَّت هكذا على حالها، تتغنَّى بجروحها، وتخلق في مخيلتها حياةً موازيةً للحياة. هذه الجماعة الشعبية المغصُوبةُ على أن تظلَّ في الدرجة الدنيا للسّلم الطبقي، يتفنن أفرادها عبر ميراث زاخر بالأفكار الخرافية المناقضة للعقل، في أن يجعلوا هذه الحياة- المملوءة بعلامات الاستفهام- مُتَّسقة ومتوازنة، حيث يقدِّمون إجابات تبدو مُرضِيَةً للعقل الإنساني في طفولته، فإذا بعجَلة المدنية والحضارة تتسارع دوراتها فتدهسهم في طريقها، وتتركهم فرائس، تتنازعهم طريقتان للعيش: الأولى تقدّم إليهم قشور الأساليب الحديثة، والثانية تشدُّهم للوراء، فيسيرون بظهورهم، مأخوذين بالحنين للماضي وانتصاراته الوهمية. وإذا بمن يخلطون بين التفكير المادي وبين التفكير الميتافيزيقي، فيقدمون إليهم عبر وسائط متعددة بعض منجزات العلم بوصفها نتاجًا أصيلاً متسقًا مع ذلك الموروث الغيبي، الذي يتوارثونه بتبجيل ويتعاملون معه برهبة. وإذا بأفراد الجماعة الشعبية يكتفون بما أتيح لهم من قشور هذه المنجزات، فيما هم غارقون لآذانهم في بئر الخرافة. هكذا يغلِّبون الجانب الميتافيزيقي على الجانب المادي، فيقومون بتعجيز الحاضر لصالح الماضي، وتركيع اللحظة الراهنة، بثقلها، أمام لحظات منتهية؛ لحظات مشحونة بقوة وجدانية، لأن لها خِفَة الغائب ليس إلا. هكذا يلعب الحنين دوره، فيسهل على بعض الاتجاهات دفع العقلية الشعبية نحو ما تظنه " الخلاص الماضوي"، وهو ليس أكثر من نَوبة رجوع وانكسار وهزيمة. فما كان من هذا الدفع القسري إلا أن أحدث خللاً لآلية من أهم آليات العقل الجمعي، وهى المواءمة؛ المواءمة بين ما ترثه - بحلوه ومُرِّه - وبين ما يُستحدث من منجزات تضاف إلى رصيد خبراته الإنسانية، بصرف النظر عمن أبدعها. فهذه المواءمة هي التي تجعل العقلية الشعبية توازن طوال الوقت بين الجانبين "الميتافيزيقي والمادي"، دون أن يطغى أحدهما على الآخر. ولا عجب أن تلمح الدِّش على سقف أحد البيوت بالريف المصري، وفي إحدى حجراته جهاز الكمبيوتر، بينما الأم أو الأخت تُعد في الداخل "طاسة الخَضَّة" لابنها المريض..!! فهذا الموروث يُلبِّي احتياجات نفسية لحامليه وإلا ما استمرَّ كل هذه السنوات، وما دراستنا له إلا تأكيد لجوانبه الإيجابية، وعشق لجماعة مُتخلِّية عن الزيف والتأنق، جماعة تحكي وتغني وتعتقد في صحة تصوراتها عن الواقع المحيط بها، ولأنها مهضومة الحقوق ومكسورة الجناح، تجد نفسها عاجزة، لا عن تفسير وتحليل الظواهر الاجتماعية المكرِّسة للتفاوت والظلم والقهر فحسب، بل عن مداواة أمراضها الجسمية، فتلجأ لقُوًى خفية تتصوَّرها مُتحكِّمةً في كل نواحي حياتها؛ تتودَّد إليها بالطقوس والممارسات، وتُبدِي التذلل والضعف والطاعة، لعلها ترضى. المدهش أن العوالم المتخيَّلة لهذه الجماعة الشعبية ما هي إلا انعكاس لنظامها الاجتماعي، وتكاد تتطابق تفاصيلها مع واقعها المعيش، مع تحويرات طفيفة؛ تحويرات تبثُّ العقلية الشعبية خلالها أشواقها وأحلامها ورغباتها الدفينة، فتبتكر أفرادًا يُماثلون أفرادها، غير أنهم يملكون قوًى خارقة، ويعيشون حياة خالدة، ليست كحياتهم التي تنتهي دومًا بالفناء. ومن هنا فإن مجابهة مثل هذه المعتقدات الخرافية، يبدأ بهدم الهالة القدسية المحيطة بها، وذلك برَدِّها إلى لغة المنطق الذي أنشأها، وكذلك فك مغاليقها التي ابتكرها العقل البدائي، حين لم يكُنْ بوسعه إدراك وتفسير الظواهر الطبيعية، التي بدت له غامضة. ولكن بفضل روح المحافظة الغريزيَّة للإنسان، تستمر هذه الطقوس والممارسات، حتى وإن اختفت المعتقدات القديمة التي أوجدَتها. فثمة طقوس سحرية لاسترضاء الكائنات غير المنظورة تؤدى للزوج والزوجة والطفل، ذائعة في الريف المصري، ومنتشرة بمسمَّيات متقاربة، وهي طقوس عادةً ما تُدْرَج ضمن المعتقدات الطبيَّة السحرية للجماعة الشعبية، وذلك لاشتباكها- من جهة- مع بعض وسائل الطب الشعبي، ومع بعض الممارسات السحرية من جهة أخرى. منها طقوس فك المربوط وعلاج العاقر أو المشوهرة ومداواة الخضة .. وغيرها. وقد تكون هذه الطقوس السحرية وقائيةً لدفع الضرر المحتمل حدوثه من جانب هذه الكائنات غير المرئية، ولكنها في الغالب الأعمّ تكون لاسترضاء هذه الكائنات، نتيجة تعرُّض أحد أفراد الأسرة لأمراض يُعتقد أن لها طبيعة سحريَّة. ولأن الرصيد الاعتقادي الداعم لاستمرار هذه المعتقدات بالغ الضخامة، ويمتدُّ بجذوره إلى مراحل تاريخية موغلة في القدم، فإن هذه الممارسات ستظل مسيطرة على قطاع عريض من أبناء الجماعة الشعبية، ما لم نكُفّ عن إفقار هذه الطبقات المعدمة، ونوفر لها أبسط حقوقها الصحية، ومن ناحية أخرى، نكُفُّ عن ترويج الأفكار السحرية، والادِّعاء باستنادها على مرجعية دينية، والدين بريء منها ومن كل الممارسات التي لا ترتقي بالإنسان أو تؤثر سلبًا على حياته.