ونأتى إلى جوهر الأفكار الجديدة ومنطوقها على لسان الغنوشى وقد اختار الغنوشى أن يترك الساحة التونسية للأوركسترا القيادي، بينما توجه هو إلى مخاطبة أوروبا بأفكاره فى محاولة لكسبهم إلى صفة ووجه الغنوشى اطروحاته عبر أوسع الصحف الأوروبية انتشارا ومهنية واحتراما «جريدة لوموند» معلنا نخرج الفرنسية تخرج من الإسلام السياسى لندخل فى الديمقراطية المسلمة، نحن مسلمون ديمقراطيون ولا نقدم أنفسنا كإسلام سياسي، فنحن حزب سياسى ديمقراطى ومدنى له مرجعية وقيم حضارية مسلمة وحديثة. وقال «نريد أن يكون الدين مستقلا تماما عن النشاط السياسى وهذا أمر جيد للسياسيين لكى لا يتهموا بتوظيف الدين لخدمة السياسة وهو مفيد أيضا للدين حتى لا يتم توظيفه لغايات سياسية» لكن الأمر اختلف فى المؤتمر العاشر الذى شهد خلافات حادة ولم يستطع حسم تسميه الحزب، وتفرق المؤتمر بين اسمين «حزب نهضة تونس» أو «حزب النهضة الوطنية» ولم يحسم المؤتمر الأمر. لكن اللافت للنظر هو أن ثلاثمائة من أعضاء المؤتمر لم يعطوا اصواتهم للغنوشى كرئيس للحركة ولكنهم على اية حال وافقوا على نص يقول بتغيير هوية الحركة إلى «حزب مدنى وطنى جامع لكل التونسيين والتونسيات بصرف النظر عن توجهاتهم وميولاتهم وخصوصياتهم» ويفسر البعض هذا التوجه بأنه محاولة للخلاص من مصير الدعوة الإخوانية الأممية ممثلة فى التنظيم الدولى وهى دعوة تكاد تشرف على الغرق، يرى البعض أن هذا التغيير يعود لعدة أسباب أهمها محاولة التوافق مع دستور 2014 الذى يحظر الجمع بين العمل الحزبى وأنشطة الجمعيات، ومنها ايضا محاولة استرضاء القوى الخارجية خاصة أمريكا التى سربت أوراقا ووثائق تفيد أن جهات أمريكية مولت جمعيات تابعة لحزب النهضة منها «مرصد المواطن للإعلام» و«الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين» و«منتدى الجاحظ» وأن التمويل تسرب إلى الحزب، كما أن أوراق بنما كشفت أن يوسف ندا (الإخوانى) شارك لطفى الزيتون مدير مكتب الغنوشى وابنه الغنوشى فى التهرب ضريبيا عبر أساليب غير قانونية، وبالغ الغنوشى فى استرضاء الغرب إلى درجة رفض إدانة زواج المثليين بحجة أن القانون يجب ألا يتدخل فى التصرفات الشخصية، لكن المؤتمر العاشر شهد مناورات عدة أهم هذه المناورات أن الغنوشى ناور محاولا الإفلات من نص لائحى للحركة يمنع الرئيس من الترشح بعد دورتين واغفل ذلك فى البيان الختامي. أما المناورة الأهم فهى اطلاق اسم «الشيخ» على الغنوشى ولعله بذلك يستعد كى يترأس ولأمد طويل ليس الحزب فقط وإنما أيضا رئاسة جمهورية تونس استعدادا لاعلان نفسه «خليفة» وثمة مناورة اخرى ولعلها الاكثر أهمية فى الحقل الجماهيرى، فالحزب سيكون ديمقراطيا مدنيا حديثا، ويترك النشاط الدعوى لجمعيات تختص بالدعوة الإسلامية وتعبئة الجماهير التونسية دينيا، وفى خطابه أمام المؤتمر أكد الغنوشى «أننا نؤكد أن مدنية الدولة والحزب لا تعنى التخلى عن هوية الغالبية الساحقة من أبناء شعبنا وهى هوية عربية إسلامية». وهكذا نكتشف أن الغنوشى وحزبه لم يختلفا كثيرا فى مجال التلاعب بالألفاظ والخيارات التنظيمية عن اساتذتهم فى جماعة الاخوان. والجدير بالذكر أن أحدا من قادة النهضة الذين نظموا الاوركسترا الاعلامى سواء داخل تونس أو خارجها لم يجب على سؤال محدد وجه إلى كثيرين منهم فى عديد من المرات وهو ما هو مستقبل علاقتكم بالتنظيم الدولى للإخوان؟ «جميعا هربوا من الاجابة. فالاجابة تكشف كل الاقنعة. وفى كل الأحوال فإن الغنوشى قد نجح منذ حتى ما قبل المؤتمر فى تقديم نفسه كزعيم تونسى لا يقاوم ولا يمكن منافسته. فالمؤتمر الذى أنفقت عليه ملايين عديدة من اليورو والذى حشد فيه ثلاثون ألف ضيف من مختلف البلدان والذى وقف فيه الرئيس التونسى الباجى قائد السبسى وكأنه يبايع الخليفة القادم قائلا فى جلسة افتتاح المؤتمر «إن حزب النهضة يقوم على أساس ديمقراطى وذى توجهات ديمقراطية». ورغم ذلك كله تبقى حركة النهضة متمسكة بذات الأهداف القديمة وأهمها فكرة «الخلافة» التى تركها الغنوشى للجمعيات الأهلية الدعوية والتى أصبح تحقيقها بالنسبة للغنوشى مسألة وقت لا أكثر، خاصة بعد أن حاول اكتساب تأييد الصقور من أعضاء المؤتمر إذ أعلن صراحة استنكاره لهؤلاء الدين يحاولون اقصاء الدين من الحياة «الوطنية» انه التلاعب بالألفاظ فهو لم يقل اقصاء الدين من الحياة «السياسية» بل من الحياة «الوطنية» ولم يحدد ما هو الفارق؟ ألسنا الآن أمام نموذج مصغر لحسن البنا عندما ظل يتلاعب بالألفاظ، يقول ثم ينفي، ثم يعود لذات القول ثم لذات النفي، ومصير البنا معلوم.. وكذلك مصير الإخوان، ولن يكون مصير الغنوشى وحزب النهضة افضل.. إنها مسألة وق،. ولأن مدرسة حسن البنا - سيد قطب كانت وظلت ولم تزل تفرض وجودها على كل أتباعها بمن فيهم الغنوشى وجماعته فإننا إزاء ذات الحيل والألاعيب المكشوفة فالغنوشى يقول إنه يغير أفكار ومواقف وممارسات ونظرية جماعته، ولكنه ويا للدهشة لا يعترف بخطأ ما كان وما ارتكبته جماعته من إرهاب وحشي، ولا يعتذر حتى مجرد اعتذار (ألم يقل مرشد إخوانى سابق.. الإخوان لا يعتذرون) وبهذا يظل الباب مفتوحا أمام العودة لذات الجرائم والممارسات إذا ما تهيأت الظروف والإمكانات لهذه العودة، ولكن الغنوشى لم ينتظر طويلا فكلامه قبل المؤتمر غير كلامه فى بداية المؤتمر، غيره فى ختام المؤتمر وطبعا سيكون غيره عندما يحقق حلمه المستحيل فى أن يترأس تونس ويعلن نفسه خليفة.. وأكرر أنها مسألة وقت وبعدها سيكتشف الجميع خداع الغنوشى. لمزيد من مقالات د. رفعت السعيد