عندما تأججت شرارة ثورة 25 يناير، وانهار جهاز الشرطة تماما، و صدر البيان الشهير يحث المواطنين على تولى حماية ممتلكاتهم والأرواح بأنفسهم، لم يكن يقلقنى بحق فى هذا اليوم المشئوم لا الثوار ولا المساجين الهاربين من السجون، بقدر ما كان يقلقنى سكان ذلك الحزام الناسف حول المدن العشوائيات؛ تلك المناطق التى يرزخ تحت نيرها بشر سقطت من حساباتهم وحساباتنا جميعا بشأنهم كثير من أشياء مهمة تشكل فى مجموعها مقومات الإنسان المعاصر، وليس الإنسان بوجه عام، والفارق واضح؛ فلا تقنعنى أرجوك بأن الإنسان هو الإنسان نفسه منذ أن بزغت فكرة الخليقة إلى يومنا هذا؛ إذ لابد وأن الأجيال المتعاقبة قد اختلفت عن سابقتها من حيث القدرات الاستيعابية ضمانا لمبدأ تطور البشرية و مساعدتها على التمكين فى الأرض. ولعلنا نشهد ذلك بأم أعيننا الآن فى اختلاف الأجيال الجديدة عن جيل الآباء مثلا، و إن ظل الجيلان يعيشان فى الإطار الزمنى نفسه، وإلا فبما تفسر مدى استعداد الأجيال الجديدة لتقبل طفرات التكنولوجيا مقارنة بآبائهم؛ و بما تفسر وجود طفل قادر على التعامل و التعاطى بسرعة البرق مع اختراع جديد ما فتئ يخرج إلى النور لتوه، فى حين قد تقضى أنت شهورا فى فهمه؟ إذن فلابد و أن الطبيعة قد أهلت القادمين الجدد بما من شأنه أن يجعلهم أكثر استيعابا لمتطلبات الزمن الذى سيدخلون فى ثناياه؛ فالإنسان إذن ليس مجرد كائن جامد متجمد يبدأ من نقطة الصفر دائما أبدا، وإنما هو كائن أتصور ان قدراته تتشكل من قبل أن يولد أساسا! ومن ثم فإنه فى استمرار حجب شريحة من بشر عن التفاعل مع الحياة بأدواتها المعاصرة وتركهم فى غياهب أدوات زمن سابق بحجة الفقر والعوز و الجهل ، هو بمثابة دفع لهم فى مرمى مساحة مخيفة يقف المرء فيها عاجزا عن اللحاق بأى شيء وكل شيء، وهو الذى يرى من حوله كل شيء، فإذا بهذا العجز يحوله إلى طاقة سخط وعنف مستمر متزايد ! فلما نضيف إلى ذلك نوعا متدنيا من حياة داخل هذه الكانتونات البشرية، وبالتبعية مستوى علاقات إنسانية شديدة التدنى، فلا غرو حينئذ من بزوغ ظواهر و ممارسات لا آدمية بين البعض منهم من المفترض أن قطار البشرية قد جاوزها بزمان ! كل ذلك يدور ولا يزال يفصل هذه الكانتونات عن المجتمعات المعاصرة القريبة منها سوى مجرد شارع عرضه بضع أمتار، ولا تسألنى وقتئذ لماذا اشتعل البنزين عندما اقترب من النار؟ المشكلة الحقيقية هى أن مجمل الممارسات الإنسانية داخل حدود العشوائيات لسنوات وسنوات،ولأجيال و أجيال، وبالنظر إلى كثرة عددها وكثرة أعداد القاطنين لها، قد أفرز بدوره ثقافة مستقلة دعونا نقر ونعترف بأنها سرعان ما فاضت من داخل حيز العشوائيات إلى خارجها، حتى أنها باتت مكونا أساسيا من مكونات الثقافة المصرية المعاصرة . لذا فإن شروع الدولة أخيرا فى تطوير هذه المناطق، وإن أعتبره خطوة مهمة لم يكن هنالك مفر منها كبداية حتمية للخروج بنا من هذه الأزمة، إلا أن المشكلة لا تتوقف عند أعتاب تحسين نوعية السكن، بقدر ما يحتاج الأمر إلى تبنى حملة واسعة المدى لمطاردة روح ثقافة العشوائيات عموما فى بر مصر. فالمؤسف انه بفضل الثورة التكنولوجية وما تلاها من ثورة إعلامية، فإن ثقافة العشوائيات لم تعد قاصرة على أماكن بعينها على الخريطة المصرية، وإنما تسرب الأمر فى الهواء إلى خارجها يستنشقه الجميع طوعا أو كرها ، إلى الدرجة التى أتصور معها أنه لو كان بإمكاننا نقل هؤلاء إلى جنات عدن رأسا، فإنه يظل ما فى جعبتهم من محتوى ثقافى ما هو قادر على تحويلها إلى جهنم وبئس المصير! نحن لا نزال أمام موروث لا حصر له من أفلام ومسلسلات وأغنيات وروايات ومسرحيات (تلطخت) جميعها بهذه الثقافة، بل لا ابالغ إن قلت أنها خرجت من رحم العشوائيات و دانت لها بالفضل، فكيف لنا أن (نصد) هذا التسريب المنهمر فوق الرؤوس؟ نحن لا نزال أمام سلوكيات مجتمعية نشأت وترعرعت متشربة حتى النخاع (بمنقوع) ثقافة العشوائيات، فكيف لنا ان نفصل هذه الصبغة كيميائيا عن أصل مكونات اللوحة المصرية الأصلية؟ العشوائيات ليست حيزا نعيش فيه وإنما حيز يعيش فينا.. أسلوب حياة متكامل الأركان يحتاج إلى تيار عفى قوى معاكس قادر على أن يجرف هذا اللون الكئيب عن حياتنا، تيار يلعب فيه العمران ولا شك دورا مهما، ولكن تظل للثقافة والتعليم أدوار وأدوار؛ والثقافة ليست كتبا نطبعها لتتلقفها أرصفة الشوارع أو أرفف المكتبات، وإنما انفتاح (قصري) عام لعقل المجتمع على ما يدور فى العالم (أيا كان)؛ والتعليم ليس رسومات ملونة بين دفتى كتاب مدرسى ساذج، وإنما أسلوب حياة ومنهجية تفكير وقدرة على الربط والتحليل والمقارنة؛ ولحاق لاهث وراء معلومات تراكمية غير قابلة للاختزال فاتنا منها الكثير!! لمزيد من مقالات أشرف عبد المنعم