اليوم.. جامعة الأزهر تستقبل طلابها بالعام الدراسي الجديد    تقارير إعلامية: 21 غارة إسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية    آخر تطورات لبنان.. الاحتلال يشن 21 غارة على بيروت وحزب الله يقصف شمال إسرائيل    «أنا وكيله».. تعليق طريف دونجا على عرض تركي آل الشيخ ل شيكابالا (فيديو)    مواقف مؤثرة بين إسماعيل فرغلي وزوجته الراحلة.. أبكته على الهواء    وزير الخارجية: تهجير الفلسطينيين خط أحمر ولن نسمح بحدوثه    بحضور مستشار رئيس الجمهورية.. ختام معسكر عين شمس تبدع باختلاف    درجات الحرارة في مدن وعواصم العالم اليوم.. والعظمى بالقاهرة 33    «مرفق الكهرباء» ينشر نصائحًا لترشيد استهلاك الثلاجة والمكواة.. تعرف عليها    مع تغيرات الفصول.. إجراءات تجنب الصغار «نزلات البرد»    إيران تزامنا مع أنباء اغتيال حسن نصر الله: الاغتيالات لن تحل مشكلة إسرائيل    الحكومة تستثمر في «رأس بناس» وأخواتها.. وطرح 4 ل 5 مناطق بساحل البحر الأحمر    تعرف على آخر موعد للتقديم في وظائف الهيئة العامة للكتاب    ضياء الدين داوود: لا يوجد مصلحة لأحد بخروج قانون الإجراءات الجنائية منقوص    حكايات| «سرج».. قصة حب مروة والخيل    المتحف المصري الكبير نموذج لترشيد الاستهلاك وتحقيق الاستدامة    حسام موافي: لا يوجد علاج لتنميل القدمين حتى الآن    عاجل - "الصحة" تشدد على مكافحة العدوى في المدارس لضمان بيئة تعليمية آمنة    وزير الخارجية: الاحتلال يستخدم التجويع والحصار كسلاح ضد الفلسطينيين لتدمير غزة وطرد أهلها    المثلوثي: ركلة الجزاء كانت اللحظة الأصعب.. ونعد جمهور الزمالك بمزيد من الألقاب    جامعة طنطا تواصل انطلاقتها في أنشطة«مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان»    صحة الإسكندرية تشارك في ماراثون الاحتفال باليوم العالمي للصم والبكم    حياة كريمة توزع 3 ألاف كرتونة مواد غذائية للأولى بالرعاية بكفر الشيخ    استعد لتغيير ساعتك.. رسميا موعد تطبيق التوقيت الشتوي 2024 في مصر وانتهاء الصيفي    جوميز ثاني مدرب برتغالي يتوج بكأس السوبر الأفريقي عبر التاريخ    جوميز: استحقينا التتويج بكأس السوبر الإفريقي.. وكنا الطرف الأفضل أمام الأهلي    عمر جابر: تفاجأنا باحتساب ركلة الجزاء.. والسوبر شهد تفاصيل صغيرة عديدة    مصراوي يكشف تفاصيل إصابة محمد هاني    فتوح أحمد: الزمالك استحق اللقب.. والروح القتالية سبب الفوز    ستوري نجوم كرة القدم.. احتفال لاعبي الزمالك بالسوبر.. بيلينجهام وزيدان.. تحية الونش للجماهير    وزير الخارجية يتفقد القنصلية المصرية في نيويورك ويلتقي بعض ممثلي الجالية    مصرع شاب بطعنة نافذة وإصابة شقيقه بسبب خلافات الجيرة بالغربية    تجديد حبس عاطل سرق عقارًا تحت الإنشاء ب15 مايو    التصريح بدفن جثمان طفل سقط من أعلى سيارة نقل بحلوان    الوكيل: بدء تركيب وعاء الاحتواء الداخلي للمفاعل الثاني بمحطة الضبعة (صور)    الوراق على صفيح ساخن..ودعوات للتظاهر لفك حصارها الأمني    نائب محافظ قنا يتابع تنفيذ أنشطة مبادرة «بداية جديدة» لبناء الإنسان بقرية بخانس.. صور    أحمد العوضي يكشف حقيقة تعرضه لأزمة صحية    برج القوس.. حظك اليوم السبت 28 سبتمبر 2024: لديك استعداد للتخلي عن حبك    «عودة أسياد أفريقيا ولسه».. أشرف زكي يحتفل بفوز الزمالك بالسوبر الإفريقي    جيش الاحتلال: سنهاجم الضاحية الجنوبية في بيروت بعد قليل    أمريكا تستنفر قواتها في الشرق الأوسط وتؤمن سفارتها بدول المنطقة    فلسطين.. إصابات جراء استهداف الاحتلال خيام النازحين في مواصي برفح الفلسطينية    "الصحة اللبنانية": ارتفاع عدد ضحايا الهجوم الإسرائيلي على ضاحية بيروت إلى 6 قتلى و91 مصابا    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات السبت 28 سبتمبر 2024    حبس تشكيل عصابي تخصص في سرقة أعمدة الإنارة بالقطامية    "المشاط" تختتم زيارتها لنيويورك بلقاء وزير التنمية الدولية الكندي ورئيس مرفق السيولة والاستدامة    5 نعوش في جنازة واحدة.. تشييع جثامين ضحايا حادث صحراوي سوهاج - فيديو وصور    تفاصيل إصابة شاب إثر الاعتداء عليه بسبب خلافات في كرداسة    الشروع في قتل شاب بمنشأة القناطر    «زى النهارده».. وفاة الزعيم عبدالناصر 28 سبتمبر 1970    حظك اليوم.. توقعات الأبراج الفلكية اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    تحرك جديد.. سعر الدولار الرسمي أمام الجنيه المصري اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    تزامنا مع مباراة الأهلي والزمالك.. «الأزهر للفتوى» يحذر من التعصب الرياضي    الأزهر للفتوى: معتقد الأب والأم بضرورة تربية الأبناء مثلما تربوا خلل جسيم في التربية    كل ما تحتاج معرفته عن حكم الجمع والقصر في الصلاة للمسافر (فيديو)    أذكار الصباح والمساء في يوم الجمعة..دليلك لحماية النفس وتحقيق راحة البال    علي جمعة: من المستحب الدعاء بكثرة للميت يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مواطنون في العالم
أديلا كورتينا
نشر في أخبار الأدب يوم 08 - 03 - 2014

مرت إسبانيا في المرحلة الأخيرة( بعد رحيل فرانكو) بتجربة الانتقال الديمقراطي، وأسهم الكُتّاب والمثقفون في هذه العملية، وكان من بينهم أديلا كورتينا، التي كان لها بالغ الأثر في إدراك فهم المواطنة والتعايش. وفي كتابها "نحو نظرية للمواطنة" تطرح أسئلة كبري حول الهوية والمواطنة ومكوناتها المختلفة وتطبيقاتها سواء علي المستوي المحلي أو الاقليمي او الانتساب إلي العالم الذي نعيش فيه .
تتناول كورتينا الجوانب المختلفة للمواطنة، من حيث ان التمدن فضيلة ضرورية إضافة إلي الليبرالية والحد الأدني من العدالة والانتماء والمشاكل المتعلقة بمفهوم عصري للمواطنة. وتحدد المؤلفة الجوانب المختلفة للمواطنة: المواطنة السياسية وما يستتبعها من فكرة الإنسان المواطن، والمواطنة الإثنية، والمواطنة كلائحة قانونية، ثم المواطنة الحديثة ومفهوم الأمة وملامح الهوية؛ وهناك المواطنة الاجتماعية. لا تخلو المواطنة أيضا من البعد الاقتصادي.
في الكتاب الذي نعرض مجتزءاً منه، تتناول المؤلفة مفهوم المواطنة المدنية وعموم المجتمع المدني ومغيب شمس الارستقراطية وأخلاقيات المهن، للثقافة أيضاً ضلع مهم للغاية في مكونات مفهوم المواطنة وخاصة الثقافة البينية وتعاسة عبادة الإثنية، والتعددية الثقافية وأنماط الاختلافات الثقافية. التربية في إطار المواطنة من الأمور المهمة من أجل تعلم بناء العالم معا، إضافة إلي التعرف علي القيم الأخلاقية والتربية في إطار القيم المدنية.
منذ ما يقرب من قرن من الزمان، عام 1896، نشر كاتب القصة الإنجليزي هربرت جورج ويلز واحدة من تلك الأعمال التي تُثير قلق البسطاء من الناس -ومن هم ليسوا شديدي البساطة- ذلك أن هذه الأعمال تبدو وكأنها تحرّك الجذور والأسس، وتضرب النظام الهادئ للإبداع. هذا العمل، وهو "جزيرة الدكتور مورو" مُنع نشره لبعض الوقت، ثم شهد بعد ذلك طبعات متعددة وبلغات مختلفة، ثم أصبحت من كلاسيكيات الأدب التي كانت بمثابة مصدر إلهام لكتاب السيناريو. وهناك، في هذا المقام، ممثلون مشهورون مثل شارل لوجتون Ch.Laughton أو بيرت لانكستر Burt Lancester الذين قاموا بدور الدكتور مورو، ذلك الشرير، كما قام بالدور نفسه ممثل ليس أقل شهرة، وهو مايكل يورك الذي أدَّي، خلال عام 1977، دور البطل وهو المفزوع aterrado إدوارد برندك.
هناك مزايا من وراء نقل عمل مثل هذا "إلي الجمهور العريض"، وهناك مساوئ أيضًا، خاصة إذا ما تم استخدام مشاهد الرعب كوسيلة لإبلاغ رسالة مفزعة، لكن ذلك ليس بسبب الشكل، بقدر ما هو بسبب المضمون. هذه هي القضية الخاصة بثلاث قصص علي الأقل تُنسب لذلك العصر، وهي قصص عادة ما يتم تذكّرها بسبب مشاهد الرّعب التي تظهر علي الشاشة، أكثر من الرسالة الأليمة التي تتضمّنها الروايات الأصلية: أولاها رواية "فرانكشتين" لماري شيلي M. Shelley والثانية جزيرة الدكتور مورو "لهربرت جورج ويلز"، أما الثالثة فهي "الحالة الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد" لروبرت لويس إستيفنسن. الشيء الغريب هو أن المشاهدين عادة ما يقومون بتصنيف هذه الأفلام في باب أفلام الرعب الناجم عن هذه الكائنات المشوّهة التي تهدد دائمًا من خلال الشاشة بصورها المنفّرة.
يقوم المسخ الذي أبدعه فرانكشتين بتدمير الكائنات العزيزة علي الدكتور بشكل لا رحمة فيه، ومن جهة أخري نجد من يسمون ب humanimales الإنسان الحيوان أو المتوحشين، عند الدكتور مورو، يثيرون، منذ البداية، قلق بريندك من خلال الهيئة الجسدية المهجنة والمكونة من إنسان وحيوان، وينتهي بها الأمر بقتل مبدعها نفسه. هناك أيضًا مستر هايد الذي يخرج من عالم الخفاء الذي يجبره عليه اسمه، ثم يسيطر رويدًا رويدًا علي دكتور جيكل، الرجل الذي فقد قدرته علي المقاومة تدريجيًا. نري إذن أن هذه المسوخ تعتدي علي مبدعيها وتعتدي علي باقي البشر، وأخذت تبثّ الرعب.
ومع هذا، فليست تلك -كما نعرف- هي الرسالة التي تريد الأعمال الثلاثة المذكورة أن ترسل بها إلينا، بل هناك رسالة أخري مختلفة، وهي أن المسوخ ليست المخلوقات التي تم مسخها في معامل سرّية علي يد علماء مولعين بالبحث العلمي، وإنما هي أن هؤلاء العلماء الذين أصيبوا بالعمي واللامسئولية، وأصبحوا قادرين علي مسخ هذه الكائنات التي أدينت بأن تعيش التعاسة، يريدون أن يرضوا فضولهم الذي لا يرتوي.
هذه المسوخ، أي المسوخ الأصلية التي تفتقر للشفقة والمدلول، هي فرانكشتين ومورو وجيكل، وهي مسوخ مبدعة وليست صنائع.
ففيما يتعلّق بويلز، نجد أنه هو نفسه يصف عمله بأنه "جروتسك ديني"، ويُدرجه بذلك في نوع ليس هو "الرعب"، بل في دائرة النقد اللاهوتي.
كان ذلك في الزمن الذي انتصرت فيه النظرية الداروينية، حيث كان العلميون يشرئبّون إلي إمكانية المشاركة في التعاون من أجل تحويل أنواع من المخلوقات إلي أنواع أخري، بإدخال تعديل علي صفاتها الخارجية والداخلية، وكانت هذه إمكانية تفتح بدورها أفقًا جديدًا للتأمل، ذلك أنه إذا ما كان الإنسان قادرًا علي الخلق، فإن من حقه المشروع أن يعترض علي خالقه، ويسأله السبب في أن الحياة لم تُعطه أيضًا القدرة علي أن يكون سعيدًا (فرانكشتين)، والسبب في أن أحد جوانب سمات البشر تُحس (د. جيكل)، والسبب في أنه، أي الخالق، خلق كائنات تميل إلي فعل السوء، بينما يقضي بأنهم يجب أن يفعلوا الخير (الدكتور مورو). إن الخالق، وليست المخلوقات، هو الذي يجب أن يُبرّر حدوث الشر، وذلك في مبحث جديد في الصفات الإلهية teodicea.
في نهاية القرن التاسع عشر، وفي خضم مناخ مُفعَم بالتدين العميق بدرجة أو بأخري، نجد أن هذا الحوار الاتهامي الذي يصدر عن المخلوق التعس مع خالقه يتسم بعظمة لا تُنكر، ويُحدِث في البسطاء من الناس، وكذا في هؤلاء الذين لا يتّسمون بالبساطة الشديدة، الإحساس الرهيب بأننا معشر الأفراد لسنا إلا حيوانات، تتوافر فينا غرائز وتوجهات حيوانية، حيث يقوم أحد العلميين، وقد جن جنونه، أي خالق غير مسئول، بالعمل علي تحويلنا إلي نوع آخر، أي إلي نوع إنساني.
ولبلوغ هذا الهدف، نجد أن مورو يحاول إدخال تعديل علي السمات التشريحية والفسيولوجية لمائة حيوان، وذلك من خلال استخدام وسيلة مؤلمة هي تشريح الأحياء، الأمر الذي يؤدي إلي إدخاله في عالم البشرية. وسوف نجد أن مورو يقوم بإجراء تجاربه في "منزل الألم"، كما أن المعاناة سوف تكون دائمًا قرينة هذا التكوين للكائنات البشرية التي تصبح غير قادرة علي أن تتحول إلي كائنات إنسانية حقيقية، وبذلك تقف في وضع مؤلم، هو وضع وسط بين الحيوان والبشر.
ومع هذا فإن المرحلة الأكثر إيلامًا، والتي تعتبر حجر الزاوية في هذه المراحل التي يبدو فيها أن الحيوانات تتحوّل إلي كائنات بشرية، هي التهيئة العقلية mentalización، فهنا يحاول مورو تهيئة مخلوقاته ذهنيا حتي تتمكن من الإحساس والتفكير، مثلها في ذلك مثل البشر، وعندما تفعل ذلك سوف تدرك أنه بين الجهد المبذول في عملية التحول الجسدي والتحول الذهني توجد هوّة. وعلي مدار هذا العمل نجد أن مورو سوف يقول لبريندك Prendik أن تغيير الشكل الخارجي للحيوانات، بما في ذلك ما هو فسيولوجي، ليس بالأمر الصعب، إذن فالأمر الأكثر تعقيدًا هو إدخال تغيير علي البنية العقلية، والتمكن خاصة من أن تصبح هذه المسوخ قادرة علي التحكم في انفعالاتها وميولها وغرائزها ورغبتها في إلحاق الأذي. ولبلوغ هذا تدخل في دائرة "القانون والعقاب".
وحقيقة الأمر هي أن التهيئة العقلية mentalización، هي، منذ زمن بعيد، إحدي الوسائل الأكثر فعالية لتعديل المواقف، كما أنَّ الطريقة الأكثر شيوعًا واستخدامًا في باب العقلنة، وعادة ما تتكون من عنصرين بسيطين هما: فرض قانون، واستخدام الكرباج، فمن يستطيع فرض قانونه وبث الخوف فإنه الرابح في اللعبة.
يتضمن "قانون" مورو تلك النصوص التي عندما تطبق فإنها تتحول إلي "سلوك إنساني قانوني"، أي هذه الوصايا التي يجب الوفاء بها حتي يكون إنسانًا: أي عدم السير علي أربع، وعدم رشف المشروبات، وعدم تناول اللحم والسمك، وعدم قنص كائنات بشرية. وحتي يتم تمثّل هذه الوصايا علي أنها أمر يتعلق بهم، فإن هؤلاء الذين يطمعون أن يكونوا بشرًا، يجب عليهم أن يتغنّوا بهذه الوصايا بين الحين والآخر تحت إشراف "مُرتِّل القانون"، الذي يُسهم في هذا الأمر الاحتفالي، لا عن طريق المضامين، بل من خلال تكرار "قفل- خارجة شعرية" حيث يتم تكراره ويتحوّل إلي عملية ردع ذاتية autopersuación. وهو "ألسنا بشرًا؟". وبالتالي فإن هذه الوصايا تصبح "سلسلة من الترانيم":
لا تمش علي أربع، هذا هو القانون. ألسنا بشرًا؟
لا ترشف المشروب، هذا هو القانون. ألسنا بشرًا؟
لا تأكل لحمًا ولا سمكًا، هذا هو القانون. ألسنا بشرًا؟
لا تقنص بشرًا آخرين، هذا هو القانون. ألسنا بشرًا؟
وعندما يتم تكرار هذه الترانيم يومًا بعد يوم، فإن الأمر ينتهي بأن يجبر هذا نفسه علي أن ينتسب إلي البشر، غير أنه عندما لا تصيب الترانيم الخاصة بالتهيئة الذهنية، ويساور ذلك الكائن الشك في أنه إنسان، وبالتالي فذلك القانون الذي هو قانونه، هو الكرباج الذي يحل محل أمر عدم وجود المضمون أو السبب، وهو التهديد بالتعذيب -منزل الألم- الذي "يقنع" الحيوان بأنه كائن بشري، رغم أنه لا يؤمن بذلك، وبالتالي فإن القانون والعقاب يجعلان من الممكن القيام بالانتقال من عالم الحيوان إلي عالم البشر، ذكرًا أو أنثي.
ومع هذا - طبقًا للعِظَة من العمل- فإن هذه التهيئة الذهنية القديمة للغاية والقائمة علي أساس التكرار والكرباج، تتّسم بأنها غير فعّالة. ورغم أن الشكل الخارجي للحيوانات يطرأ عليه تغيير، فإن الذكاء والمشاعر تظل كما هي في الأساس، ومن هنا فإن موت مورو يعني بالنسبة "لمسوخه"، أو "الإنسان الحيوان"، العودة إلي الأحاسيس الأصلية للنوع، والاختفاء التدريجي للذكاء والعقل البشري. والسبب في ذلك هو أنه فيما يتعلّق بذلك "القانون المفترض للبشر"، الذي وضعه مورو، هو أنه لم يكن هناك أي تناغم بين القدرة الذهنية والمشاعر التي عليها المسوخ المُعذَّبة، ولا توجد أية أرضية للاستزراع. إنها إذن مجموعة من السلوكيات غير ذات الجذور، التي ليس لها مستقبل، وسوف تختفي عندما يكف الكرباج عن العمل.
وإذا ما كان هناك شيء آخر، نجد أنه بموت مورو ("الخالق") يشهد بريندك بوضوح شديد أن هذا الموت هو موت نهائي، وأنه لا يوجد أي أمل في البعث. من البديهي أنه يحاول أن يخدع المسوخ، مؤكدًا لهم أن مورو ذهب لبعض الوقت لكنه سيعود لأنه يخشي علي حياته. إلا أن هذا الخداع الواعي هو البرهان القاطع علي أنه يعرف أنه لن يعود، وأن العَالِم المبدع قد فقد حياته علي يد "مخلوقاته".
لا شك أن النهاية هي المحصلة المنطقية لكل هذه الأحداث، فالحيوانات أخذت تعود تدريجيًا إلي قانونها الأصلي، ولم يتبق من محاولات أنسنتها إلا مرارة ذكر قصة مؤلمة، هي "قصة جروتسكية"، كانت هذه رسالة ويلز ولو بشكل جزئي علي الأقل، أي أن التراجع ممكن في أمر تطوّر الأنواع، وأن "عمليات الأنسنة"، التي تم تعلمها بالتكرار والعقاب، ليس لها مستقبل، وأنها آيلة للزوال في وقت قريب، أو علي المدي المتوسط أو البعيد.
وهنا من المناسب أن تكون الأديان -التي هي محل النقد- قد وعت الدرس، بدلاً من أن تلجأ إلي فرض قانون الترهيب، الذي لا يُشكّل جوهرها بأي حال من الأحوال، أن تظل أمينة علي رسالة الأمل، أكثر منها علي رسالة العقاب، أي رسالة الحنان أكثر من رسالة الخوف.
ومن المناسب أيضًا أن تدرك الحياة السياسية أن تحذيرات ويلز تسير في هذا الاتجاه، ذلك أن ذلك التكرار الممل للقانون والعقاب لا يؤدي إلي سلوكيات مؤنسنة بشكل دائم، ولا يرفع من شأن درجة إنسانية الأفراد، إذا لم يفهم الأفراد الذين يعيشون الحياة الإنسانية ويشعرون أن القانون، إذا ما كان هناك، هو في داخلهم (الوازع)، الذي هو قانونهم هم.
هذا ما كان كانط يريده في حياة الأخلاق الشخصية، عندما أكد أن كل كائن بشري هو كائن مستقل بذاته، وقادر علي أن يقدّم لنفسه هذه القوانين التي تصنفه، من حيث هو إنسان، وبالتالي فهي قوانين صالحة للبشرية جمعاء. هذه هي الرسالة التي تريد أن تبعث بها الديمقراطيات، عندما تؤكد أن قوانينها هي تلك التي يريد الشعب أن يضعها لنفسه، سواء بشكل مباشر أو من خلال ممثليه. لكن نتساءل: هل هذا حقيقة؟
يجدر بنا أن نؤكد من جديد أن رسالة ويلز ما زالت سليمة بالنسبة لمجموعة من القوانين، سواء كانت إلهية أو إنسانية، إذ أن ما تبغيه هو "الأنسنة" للأفراد دون أن نبحث في أعماقهم عن عناصر للوئام، من خلال تكرار ذكر القانون والتهديد بالعقاب الاجتماعي أو القانوني. وفي هذا المقام من المهم أن نعترف أن الجروتسك اللاهوتي يمكن أن ينتهي به الحال اليوم ليصبح "جروتسك سياسيًا"، إذا ما ظللنا نتغنّي بشكل جماعي ومُمِلّ بأغنية "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية الليبرالية"، دون أن نساند هذا من خلال الألمعية والمشاعر التي يعيشها الناس الذين هم من لحم ودم. وبالتالي فإن القانون الجديد، ترجمة لقانون مورو سيكون علي النحو التالي:
من الضروري احترام حقوق الإنسان. هذا هو القانون، ألسنا بشرًا؟
كل فرد من حقه الحياة. هذا هو القانون، ألسنا بشرًا؟
كل فرد من حقه أن يعبّر عن نفسه بحرية. هذا هو القانون، ألسنا بشرًا؟
من الضروري دعم الديمقراطية. هذا هو القانون، ألسنا بشرًا؟
نجد إذن أن تكرار هذا الخطاب إلي درجة الملل، وتهديد الأفراد الذين يتجاوزون ذلك بالسجن والفضيحة الاجتماعية، وتهديد الدول التي تتجاوز هذا بالحيلولة دون تقديم العون لها في إطار منظومة الأمم، لا يحلّ المسائل كثيرًا. وعمومًا فإن كل فرد هو الذي ينبغي أن يكون مقتنعًا بأن هذه القوانين هي التي يضعها لنفسه، رغم أنه تعلّمها في السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه، كما أننا نعرف جيدًا، ولو كان ذلك منذ كانط علي الأقل، أن هناك فرقًا بين "أصل" القانون وبين "سببه الكافي razon suficiente" أي الأسباب التي تجعل الكائن البشري ينظر إليه، بمقتضاها، علي أنه قانونه.
من الأمور الإنسانية الأساسية تُّعلم القوانين والقيم من خلال الانخراط في السياق الاجتماعي socialización، والقبول بالقوانين التي تم تعلمها إنما هو أمر يتعلق بكل فرد، وأن هذه القوانين لن تكون كذلك إذا لم تكن مقنعة بالنسبة له وترضي مشاعره. فالأمر كما قال أرسطو منذ أربعة وعشرين قرنًا -وحتي لو لم يقل ذلك- هو أن كل فرد هو جماع الفطنة intelecto والرغبة، العقل والمشاعر. ولهذا فإن هذه القوانين المفترض أنسنتها، إذا لم تكن لها قاعدة صلبة عند العقل الشاعر الخاص بالكائنات الإنسانية، فإنه لا يمكن تجاور غيبة "الإنسانية".
وتكمن المهمة الكبيرة في المستقبل في البحث عن نقطة الالتقاء بين القوانين والقيم الموجودة لدينا في الديمقراطيات الليبرالية بأنها أنسنة وأنها العقل الشاعر razón sentiente لكل فرد، من حيث هو كائن اجتماعي، وهذه المهمة هي التي نحاول أن نعالجها بشكل جزئي في هذا الكتاب، أي الاستقصاء فيما يتعلق بالمدي الذي يمكن أن يكون فيه مضمون محل نقاش في أيامنا هذه، وهو المواطنة، بمثابة نقطة التقاء بين العقل الشاعر الخاص بأي فرد، وتلك القيم والقواعد التي لدينا والمتعلقة بالأنسنة. الأمر بالتحديد هو محاولة المواءمة بين اثنين من مشاعرنا العقلانية العميقة وهما: أننا ننسب إلي مجتمع، العدل في هذا المجتمع.
ندرك من حيث المبدأ، أن واقع المواطنة، أي أن يعرف المرء ويدرك أنه مواطن في مجتمع، يمكن أن يحفّز الأفراد ليعملوا من أجله، وبالتالي فمن خلال هذا المفهوم يلتقي الجانبان اللذان كانا محلّ تعليقنا، وهما الجانب "الوطني"، أي الجانب الخاص بمجتمع يجب أن يكون عادلا حتي يتمكن أفراده من إدراك مشروعيته، والجانب "المعتم" الذي تمثله تلك الروابط الخاصة بالانتماء، وهي الروابط التي لم نخترها بل تشكل جزءًا من هويتنا. فأمام التحديات وأمام أي شيء يواجهه مجتمع ما هنا يمكن اللجوء إلي "العقل والمشاعر" عند أفراده، ذلك أنهم مواطنون في هذا المجتمع الخاص بهم.
يبدو إذن أن عقلانية العدالة والشعور بالانتماء إلي مجتمع محدد يسيران معا، هذا إذا ما أردنا تأكيد وجود مواطنين كاملي المواطنة، وكذلك ديمقراطية مستدامة. وهذا هو السبب الذي من أجله وجدنا أن عقد التسعينيات يشهد عصرنة لمصطلح قديم جديد هو المواطنة.
المواطنة مفهوم يقوم بدور الوساطة، لأنه يضم متطلبات تتعلق بالعدالة، ويشير في آن معا إلي هؤلاء الذين هم أعضاء في هذا المجتمع، ويربط بين عقلانية العدالة وحرارة الشعور بالانتماء. ولهذا فإن وضع نظرية للمواطنة مرتبطة بنظريات الديمقراطية والعدالة، ولكن باستقلال ذاتي نسبي بالمقارنة بهما، قد يكون واحدًا من التحديات التي نعيشها في عصرنا. ولما كانت مثل هذه النظرية يمكن أن تقدم لنا الأسس الأفضل من أجل الحفاظ علي ديمقراطية ما بعد الليبرالية ودعمها، فإنها أيضًا يمكن أن تكون علي مستوي المحفّزات: أي أنها ديمقراطية تلتقي فيها المطالب الليبرالية للعدالة والجماعية الخاصة بالهوية والانتماء، وبالفعل نجد وفرة من النظريات المتعلّقة بالمواطنة خلال عقد التسعينيات تقدم "لمسوخ" الدكتور مورو إمكانية وضع القوانين الخاصة بها.
مشاكل مفهوم عصري للمواطنة:
ليس من السهل أن نقدّم قائمة بهذه المشاكل، والأصعب من هذا تقديم حلول، لكننا سنحاول فيما يلي أن نقدم صورة بانورامية نوعا ما، آخذين دليلنا في هذا المفاتيح الخاصة ببنية هذا الكتاب، بحيث تعكس أوجهًا مختلفة للمواطنة وليس البُعد السياسي فقط:
المواطنة مفهوم ذو تاريخ طويل في التراث الغربي، يرجع في أصوله إلي جذرين، هما اليوناني واللاتيني، هذا الجذر المزدوج الذي يتسم بأنه أكثر سياسية في الحالة الأولي، وأكثر قانونية في الحالة الثانية، يمكن أن نتتبعه حتي أيامنا هذه في معرض المناقشات الحامية بين مختلف الموروثات التراثية مثل الجمهورية والليبرالية، أي ذلك الخاص بديمقراطية المشاركة وبديمقراطية التمثيل.
أن مفهوم المواطنة الذي تحوّل في أيامنا إلي أمر جوهري هو مفهوم "المواطنة الاجتماعية" ل.د.ت.إتش. مارشال، وأن دولة الرفاهية هي فقط التي تمكنت من الوفاء به، بغض النظر عن جوانب القصور الكثيرة التي اتضحت. وتثير الصعوبات، التي يتم بها هذا الشكل من أشكال الدولة شكوكًا مهمة في أنه لن يقل سقف المطالب التي يطرحها مفهوم المواطنة الاجتماعية. فدولة العدالة أصبحت دولة ضرورية علي ما يبدو.
يبدو أن مفهوم المواطنة، الذي من المعتاد أن يكون مقتصرًا علي السياق السياسي، يتجاهل البعد العام للاقتصاد، وكأن الأنشطة الاقتصادية لا تتطلب إضفاء شرعية اجتماعية مصدرها "المواطنون الاقتصاديون".
والشيء المثير للفضول هو أن المجتمع المدني الذي يبدو، من حيث المبدأ، أنه بعيد عن فكرة المواطنة، لأنه يتحدث تحديدًا عن علاقات اجتماعية وليست سياسية، يتمثّل أمامنا اليوم علي أنه أفضل مدرسة للمدنيّة. ومن هذا المنطلق أطلقت التسمية التالية: "الأساس الذي عليه يقوم المجتمع المدني"، وهو أساس يتألّف من التأكيد علي أنه مكوّن من مجموعات المجتمع المدني التي تولّدت بطريقة حرة وتلقائية، في إطار يتعلم فيه الأفراد المشاركة والاهتمام بالقضايا العامة، ذلك أن السياق السياسي هو في واقع الأمر ممنوع عليها. وعلي هذا فإن المجتمع المدني سوف يكون، انطلاقًا من هذا المنظور، المدرسة الحقيقية للمواطنة، وفي هذا المقام نجد أن مايكل رالزر سوف يتحدث عن "مواطنة مركبة"، بينما نحاول من خلال بحثنا هذا الذهاب إلي ما هو أبعد من ذلك بعض الشيء، وأن نتحدث عن "المواطنة المدنيّة".
بيد أن المواطنة الخاصة بدولة قومية أخذت تتهاوي تحت وطأة المطالب الأيديولوجية المسمّاة "المجموعات grupalistas"، حيث تشير تلك الأيديولوجيات إلي التعايش بين المجموعات ذات الثقافات المختلفة أو أية أنماط أخري من المجموعات الاجتماعية. ففي الحالة الأولي نجد مشكلة توليد "مواطنة متعددة الثقافات" أو كما سنطلق عليها في هذا البحث "مواطنة الثقافة البينية ciudadania intercultural"، أما في الحالة الثانية فنجد أن المطالب الخاصة بكل واحدة من المجموعات تتمحور فيما أطلق عليه يونج "مواطنة تباينية" C.diferenciada.
يتطلب الموروث التراثي العولمي- الليبرالي والاجتماعي تجسّد "مواطنة كوزمبوليتية" تتجاوز أطر المواطنة الوطنية (الخاصة بالدولة القومية) وتتجاوز كذلك البعد القومي transnacional (الخاص بالاتحاد القائم بين الدول الوطنية مثلما هو الحال في الاتحاد الأوربي). ولما كنا قد أخذنا في الحسبان بأن فكرة المواطنة إنما تربطنا خصوصا بمجتمع سياسي، فإن المواطنة الكوزموبوليتية هي، من حيث المبدأ، مثالية غريبة تتطلب تجاوز جميع العقبات. ومع هذا فإن الموروث التراثي الأخلاقي السياسي العام هو الذي لا يزال يُضفي معناه علي جميع الإنجازات الأخلاقية والسياسية.
وفي نهاية المطاف، نقول إن المواطنة هي عبارة عن محصلة العمل وما يترتب علي خطوات تبدأ بعملية التربية الرسمية (المدرسة) وغير الرسمية (الأسرة والأصدقاء ووسائل الإعلام والمناخ الاجتماعي). فالأمر هو عبارة عن تعلّم أن يكون المرء مواطنا، مثلما يتعلم أشياء أخري كثيرة، ولكن ليس ذلك عن طريق تكرار قانون لا صلة للمرء به، وليس عن طريق الكرباج بل أن يصل ذلك إلي أعمق أعماق الكيان.
المواطنة، هي في البداية "علاقة سياسية" بين الفرد والمجتمع السياسي، وعلي أساس هذا فإن الفرد هو عضو كامل الحقوق في هذا المجتمع، كما أنه يدين له بالولاء الدائم. وبذلك فإن لائحة المواطن هي الاعتراف الرسمي بانخراط الفرد في المجتمع السياسي، أي ذلك المجتمع الذي أخذ منذ أصول عصر الحداثة يتمحور في شكل الدولة الوطنية للحقوق.
ومع هذا فإننا لم نقل إلا القليل جدًا في هذا المقام حول طبيعة المواطنة، ذلك لأن "الرباط السياسي" الذي تتكوّن منه المواطنة إنما هو عنصر "تحديد الهوية" الاجتماعية للمواطنين، وهو واحد من العناصر التي تشكل هويتهم. وفي هذه النقطة نجد جذور العظمة والتعاسة التي عليها هذا المفهوم الذي نعالجه ذلك أنه، من حيث المبدأ، نجد أن تحديد الهوية بالانتساب لمجموعة إنما يعني اكتشاف الملامح المشتركة، وأوجه الشبه بين أعضاء المجموعة، لكن، في آن معًا، نجد أن ذلك يعني أيضًا الوعي بأن هناك فرقًا بين هذه الجماعة وبين الغرباء عليها. ومن حسن الحظ أن تشابكات المواطنة تتغذّي علي أمرين: أحدهما الاقتراب ممن تجمعهم أوجه الشبه المشتركة، والانفصال عمن هم مختلفون، فالمواطن الأثيني يرتبط بمن هم مثله، أي الأحرار والمتساوون، ويبتعد عمن هم غير ذلك. أما المواطن الروماني فإنه يعرف أن القانون يحميه، وهو قانون لا يعيش البربر تحت مظلته.
إذا ما كان صحيحا وهذا ما علّقنا عليه أن الآونة الأخيرة شهدت كثرة من الأبحاث حول مضمون "المواطنة"، فليس أقل من ذلك صحة أن هذه الأبحاث تواجه صعوبات كبيرة عند تحديد ماهيّة المصطلح، فعندما يبدأ تاريخ مصطلح في اليونان منذ ما لا يقل عن خمسة وعشرين قرنًا من الزمان، فليس من المستغرب أن يكون المصطلح محملاً بمجموعة من المعاني الإضافية يصعب الإلمام بها جميعًا عند وضع تعريف له، ومع هذا يبدو أن هناك طريقا مفيدا للتوصل إلي ذلك ألا وهو اتخاذ نوع من التوصيف أصبح اليوم بمثابة ما يعرف بالنظامي "canonico" كنقطة انطلاق، وحتي ننتقل بعد ذلك للإشارة إلي ما هو المضمون الدائم والذي لا حيدة عنه في هذا المصطلح، وكيفية تحقيق ذلك في أيامنا هذه، آخذين في الحسبان التغيّرات الاجتماعية، وجوانب القصور التي يجب تجاوزها.
في هذا المقام، نجد أن مضمون "المواطنة" الذي أوشك علي أن يكون مضمونا نظاميًا canonico هو ذلك الذي يطلق عليه "المواطنة الاجتماعية"، طبقا لما أرسي قواعده توماس إتش.مارشال منذ نصف قرن من الزمان. ومن هذا المنطلق، فإن من يكتسب صفة المواطن هو ذلك الشخص الذي يعيش في مجتمع سياسي ويتمتّع ليس فقط بالحقوق المدنيّة (الحريات الشخصية) التي تلح عليها الموروثات التراثية الليبرالية، وليست تلك التي يصر عليها الجمهوريون، وإنما يشمل ذلك الحقوق الاجتماعية (العمل والتربية والمسكن والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية في أزمنة الضوائق). إذن نجد أن المواطنة الاجتماعية تشير أيضًا إلي هذا النمط من الحقوق الاجتماعية، حيث تضمن حمايتها الدولة القومية، لا من حيث هي دولة ليبرالية، بل من حيث إنها دولة حقوق اجتماعية.
ومع هذا فمن الناحية التاريخية كان ما يسمي "بدولة الرفاهية" الذي نعمنا به خاصة في بعض البلدان الأوربية، هو المضمون الأفضل الذي جسّد الدولة الاجتماعية وأسهم بشكل أفضل، بناء علي ذلك، في الاعتراف بالمواطنة الاجتماعية لأفراده. وكان هذا تقدمًا كبيرًا لا مراء في ذلك، لكنه اليوم أضحي نموذجا يمرّ بمشاكل، ذلك أن دولة الرفاهية أخذت تعيش أزمة، كما أن الانتقادات الموجهة لها، من حيث إنها شخصية تاريخية، أخذت تؤثر أيضًا علي قدرة الدولة الاجتماعية علي إرضاء متطلبات المواطنة الاجتماعية.
وحقيقة الأمر أن إرضاء هذه المطالب أمر جوهري، حتي يتعارف الأفراد ويشعروا أنهم أعضاء في مجتمع سياسي، بمعني أنهم مواطنون، ذلك أن من يشعر أنه جزء من مجتمع هو الذي يعرف أن هذا المجتمع يعني بشكل نشط في تلبية احتياجاته، وليس هذا فقط بل هي تلبية كريمة. لكن هذا في نظري، يمكن الوصول إليه من خلال دولة العدالة، وليس من خلال دولة الرفاهية، وبالتالي سوف نشهد عما قريب ميلاد دولة الرفاهية وازدهارها، وسوف نتحاور مع نقادها وسوف نحاول أن نبيّن كيف أنه ما زال ممكنا رغم كل شيء العمل علي حماية الحقوق الاجتماعية الخاصة بالمواطنة الاجتماعية في دولة العدل.
يوجد من حيث المبدأ وعي شديد الضعف، إن لم نقل أنه غير موجود علي الإطلاق، بأن "سكان" العالم الاقتصادي هم مواطنون اقتصاديون. ومع هذا فإن مضمون "المواطن" أخذ ينتشر بشكل تدريجي إلي سياقات أخري اجتماعية (رغم أنه وُلِد في السباق السياسي) مثلما نري في حالة السياق الاقتصادي، وذلك للإشارة إلي أنه في أي من هذه السياقات نجد أن المتأثرين بالقرارات التي تتخذ فيها هم سادة هذا الحقل، وليس الرعية، وهذا يستتبع بالضرورة أن يسهموا في المشاركة الفعالة في اتّخاذ القرارات التي تؤثر عليهم، وأيا كان نمط الإسهام فالأمر يقتضي الحسم في الحالات المحددة، لكنه يجب أن يكون ذا دلالة علي أية حال.
هذا التأكيد صالح علي الأقل لكي نطلقه علي اثنين من التيارات الفكرية المعاصرة التي تستلهم العمل الاقتصادي، وهما: أخلاقيات الخطاب في بُعدِه التطبيقي علي الاقتصاد والمؤسسة، وذلك التيار المسمي stakeholder capitalism أو "رأسمالية المتأثّرين" بالنشاط المؤسسي، الذي يتّسم بأنه ضارب بجذوره بقوة في شمال أوربا وإنجلترا، وهو آخذ في زيادة تواجده في دول جنوب أوروبا. أضف إلي ما سبق وجود تيارات أخري معروفة ومعتمدة للاقتصاد الاجتماعي.
مضمون المجتمع المدني:
لقد رسا قاربنا في مدخل هذا الكتاب علي شاطئ جزيرة الدكتور مورو، وهناك عرفنا تلك المسوخ بغير القادرة علي السيطرة علي ذكائها وعلي مشاعرها بحيث تكون إنسانية. فلم تجد نفعًا عصا القانون أو العقاب الجسدي لتحويل الغرائز إلي إرادة، وتحويل الذكاء الحيواني إلي ذكاء وعقل إنساني. وهنا نتساءل "ألن يحدث شيء شبيه مع الأفراد في أن مجرد ترتيل الحقوق الأخلاقية أو القيم العليا للدساتير الديمقراطية لن تجدي نفعًا إدماجها وتحويلها إلي جزء منهم وهذا أقل قوة وتأثيرًا من سطوة القانون؟".
كانت فكرة المواطنة تبدو وكأنها مهماز واعد، وذلك بتناغمها مع بعض الحاجات التي كان يشير إليها ماسلو Maslow علي أنها لصيقة بكل كائن بشري: أنها الحاجة في أن يتمّ إدراجه في جماعة، والانخراط فيها وأن يكون جزءًا منها. وعندئذ نجد أن الشعور بالانتماء والانتساب إلي جماعة يظهر في اللحظات الأولي في المجتمعات ذات الانتساب، أي تلك المجتمعات التي تشكل جزءًا منها عن طريق الميلاد (الأسرة والجيران والجماعة الإثنية) لكنها يجب أن تحظي بالقبول من خلال إثبات أنها بدرجة أو بأخري تتسم بالعدالة وأنها قادرة ممارسة منها للعدالة السائدة فيها علي أن تولد الانتساب إليها.
وتشير الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمواطنة في هذا الاتجاه، لكن الكائن البشري ليس مجرد فرد له حقوق وينسب إلي الجيلين الأول والثاني (المواطنة السياسية والاجتماعية) وليس أيضًا المنتج للثروة المادية أو غير المادية (المواطنة الاقتصادية)، بل هو قبل كل شيء عضو في مجتمع مدني، وجزء من مجموعة من التنظيمات غير السياسية وغير الاقتصادية، وهي أمور جوهرية لإدراجه اجتماعيًا، وكذلك بالنسبة لأمور حياته اليومية. من الضروري أن نضع في الحسبان (إلي جوار المواطنة السياسية والاجتماعية والاقتصادية) فكرة المواطنة المدنيّة، أي البعد الراديكالي للشخص، والذي بمقتضاه ينتسب إلي مجتمع مدني.
وحقيقة الأمر أن أهمية المجتمع المدني في الحياة الاجتماعية والشخصية في إجمالها اكتسبت اهتمامًا جديدًا خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات لأسباب مختلفة، فقد كان التوجّه الخاص بالليبرالية الجديدة الذي نادي به نوزيك Nozick ينادي بضرورة تقليص دور الدولة إلي الحد الأدني، وذلك رغبة في الدفاع عن "الحقوق الطبيعية" للملكية في إطار الخط الخاص "بالملكية الفردية" التي أدت إلي ظهور الرأسمالية، وهذا خط أخذ يكتسب قوة مع مرور الأيام، وجري الدفاع عنه بقوة كبرت أم صغرت. كما ساعدت الأزمة الخاصة بدولة الرفاهية علي الدفاع عن تقليص الدولة إلي الحد الأدني، وحدث هذا أيضًا في بلادنا (إسبانيا)، حيث تولي أمر هذا بعض المؤلفين مثل خوان أويرتا دي سوتو، أو بدروشواريث، أو رفائيل ترمس. وعن هذا الدفاع يمكننا القول إنه يدافع عن تقليص الدولة إلي الحد الأدني، ويدافع عن توسيع السوق إلي الحد الأقصي، كما أنه يريد تقليص الدولة لتحرير الاقتصاد من تدخّلها، أكثر من كون ذلك طريقة لدعم استقلال السياقات غير الاقتصادية في المجتمع المدني، بمعني الاتحادات المدنيّة والدينية والحركات الاجتماعية والمجموعات ذات المصلحة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.