من الممكن إدراج رواية فتاة الحلوى للروائى والدبلوماسى محمد توفيق فى نوع أدب الجاسوسية وهو شكل أدبى نشأ فى نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وبلغ أوجه أثناء الحرب الباردة. وقد تميز فى هذا النوع أدباء بارزون من كونراد إلى لوكاريه مرورًا بجراهام جرين كتبوا أعمالاً تنتمى إلى هذا النوع كما تعد فى مصاف الأعمال الأدبية الرفيعة. وفى مصرعرف أدب الجاسوسية بأنه تسجيل لوقائع حدثت بالفعل وكتبت فى شكل روائى كما هى الحال فى روايات صالح مرسي، أو فى أعمال قائمة على الخيال موجهة للناشئين. وبعد سقوط حائط برلين ظن بعض المتابعين والكتاب أن هذا النوع قد انتهى ولكن بعد 11 سبتمبر 2001 ومع تعاظم الجاسوسية وظهور أشكال جديدة من الصراعات السياسية والمسلحة أصبحت هناك شبكات تجسس هائلة تعمل على نطاق العالم كله وعاود أدب الجاسوسية الظهور بعد تغير مسرح الأحداث من الصراع بين الغرب والاتحاد السوفييتى إلى مناطق كالشرق الأوسط وأفريقيا أو إلى الفضاء الالكتروني. وبدلا من الموت المعلن ازدهرت روايات الجاسوسية وظهر كتاب جدد، بل إن هذ النوع الأدبى اجتذب كتابًا معروفين بكتابة أعمال أدبية رفيعة خارج هذا النوع. ومن الشائع أن يكون بطل هذا النوع رجل مخابرات أو عميل لها، ولكن قد يكون البطل هو الضحية أو الشخص الذى تطارده تلك الأجهزة كما هى الحال فى رواية فتاة الحلوى. بطل الرواية ليس فتاة الحلوى بل عالم مصرى عمل فى المفاعل النووى العراقى أيام صدام حسين، وبعد سقوط بغداد لجأ إلى مصر. تصير حياته مهددة لأن مخابرات دول غربية تطارده للقضاء عليه، فهى تصفى بالاغتيال العلماء العرب وكذلك تفعل اسرائيل حتى تظل الدول العربية فقيرة علميًا وتبقى مجتمعة أضعف عسكريًا من اسرائيل. وهو لذلك يختفى محاولاً الذوبان فى زحام القاهرة السفلى وجموع بشرية رثة. وذكريات هذا العالم تدور حول انتصاراته العلمية والأكاديمية التى ألصقت به لقب “المخيخ” الذى صار يختزل شخصيته. وقد أدرك منذ سنوات منذ أن قبل أن يربط مصيره بصدام حسين أن حياته أمست على كف عفريت. فكيف يسمح للأمل أن يتسرب إلى نفسه، فلا أحد يعطى أمثاله الحق فى الحب والارتباط بفتاته كتلك الشخصية التى يقابلها فى العالم الافتراضى فى لعبة يتقمص فيها اللاعبون أدوارًا يصنعونها، فيختار هو “مفتول العضلات” وهو ما ينقصه فى الواقع. وقد أعطاه المطاردون الاسم الكودى “ميكى ماوس” لضآلة حجمه، وكبر أذنيه النافرتين وعينيه الصغيرتين اللتين تشعان خلف نظارة كبيرة. فهو مرشح نموذجى للذوبان فى زحام القاهرة الذى يربك أبرع عمليات التخابر تخطيطًا. ولكن «المخيخ» قد حفظ كل مدخراته فى شكل ودائع فى أحد فروع البنك العربى وهو ما يقود المطاردين إلى تتبعه. ويقوم سرد المطاردة على التوازى بين عالمين، عالم القاهرة الذى يموج بالعشوائية وعالم الجاسوسين اللذين يديران المطاردة بأحدث أجهزة الاتصال فى مبنى بنيويورك يطلق عليه “مبنى الأشباح” وتنتهى المطاردة المثيرة مؤقتًا بفشل محاولة القتل وعودته إلى الحى العشوائى الذى لجأ إليه حيث نقابل نماذج إنسانية متنوعة فى صراعها من أجل البقاء بكل الطرق. وتقوده المطاردة إلى الوقوع فى قبضة مختطفين لفتاة تدخل للدفاع عنها، فيعتقد الجاسوسان الأمريكيان أنه استعان بفريق من المحترفين لإخفاء آثاره. والمختطفون المصريون الذين يجيد سائقهم المناورات للفرار من المطاردة يرون أنهم شركة “محترمة” لتحصيل أموال مستحقة تقوم “بمهمة قومية” متبنين لهجة رجال الأعمال كأن اختطاف الناس قد تحول إلى نشاط محترم جدا. ويخطر ببال المخيخ أن البلد لم يبق فيها سوى القوة الغاشمة حيث الأقوياء يفرضون ما تسوغه لهم أهواؤهم، أما الأغلبية الصامتة فأقصى ما يحلمون به أن يسمح لهم بالتأوه. ومصر كلها تنهب منذ أيام الفراعنة لا بالسطو المسلح، بل بالسلت أى الاستيلاء التدريجى المستمر برفق ونعومة. تحتفظ الرواية بإيقاع مثير حتى النهاية الحتمية. ويجيد الكاتب رسم تفاصيل الشخصيات الرئيسية والثانوية وتصوير العوالم المختلفة التى تدور فيها الأحداث. فبموازاة عالم القاهرة السفلى هناك مركز التجسس الذى تدور فيه عملية الاغتيال عن بعد بواسطة عميلين يمر أحدهما بأزمة تطرح للتساؤل القيم الزائفة عن التفوق الأخلاقى التى يدعيها السياسيون فى الولاياتالمتحدة ويمر بلحظة إنسانية يتعاطف فيها مع الضحية ولكنه يمضى فى مهمة الاغتيال للنهاية. وهناك العالم الافتراضى الذى يسقط البطل عليه أحلام حياته غير المتحققة. وقد سبق أن جاءت شخصية ذلك العالم فى إحدى روايات محمد توفيق السابقة وكانت كما هى فى رواية “فتاة الحلوى” شخصية حية ولم تقف عند كونها معنى رمزيًا كما لا تقف عند أن تكون فردًا بيولوجيًا فحسب، ففيها كثيرمن التلاوين والظلال لأنها تملك حياة اجتماعية عقلية وعاطفية وليست مجرد بصمة سلبية من بصمات المجتمع. وبطل الرواية شخصية فعالة تربطها بالمجتمع علاقات معرفية وأخلاقية وجمالية، وتربطها كذلك فاعلية فى القضايا الوطنية والقومية، وإن كانت الرواية لا تتصف بالتلقين الخطابى ولا تستهدف الدفاع عن رسالة سياسية مباشرة، وإنما تتصف بتفاعل البعد الجمالى فى تصوير الملامح والأفعال وإحكام الحبكة ومعالجة الواقع معالجة صادقة فى بناء معمارى فنى وبالصياغة اللغوية الموحية تنفذ من خلال أحداث المطاردة إلى أعماق المجتمع المصرى الذى يموج بالتناقضات والمفارقات. لمزيد من مقالات ابراهيم فتحى