سؤال قد يثير الدهشة لدى بعض القراء، لكن الواقع الذى يشهد به الكثيرون ممن تعاملوا مع بعض المكفوفين أنهم فى أحيان كثيرة لا يشعرون بأنهم مكفوفين، بل مع طول العشرة قد ينسون هذه الحقيقة وتحدث العديد من المواقف الطريفة بينهم نتيجة لتناسيهم ذلك، وكأنى أسمع بعد الناس الذين تعاملوا مع المكفوفين يقولون: (نعم قد حدث ذلك معنا بالفعل) بل قد يحكون لك بعض المشاهدات العجيبة فى هذا السياق، فما سر ذلك؟ هذا الأمر يرجع - فى تقديرى- إلى عدة أسباب، منها: أولا: تدريب الكفيف لحواسه المتبقية حتى تعوض الحاسة المفقودة؛ فأنت إذا أعطيت لإنسان عادى ورقة مكتوبة بطريقة برايل (وهى الطريقة التى يقرأ ويكتب بها المكفوفون) فحين يتلمسها الشخص العادى يشعر وكأنها حبات سكر أو أرز مجروش متناثر فوق الورقة ولا يستطيع بأصبعه أن يميز تمييزا دقيقا بين الحروف المكتوبة على الورقة. ثانيا: قيام أعضاء الجسم عند الشخص الكفيف بوظائف قد لا تقوم بها عند الكثير من العاديين ومن ذلك ماهو مشهور فى عالم المكفوفين من أن (القدم هى نظارة الكفيف) وصدق الشاعر العربى حين قال: (والأذن تعشق قبل العين أحيانا). ثالثا: ويحدث بمرور الوقت مع الكثير من المكفوفين وبطريقة لا شعورية أن تتحول خلايا اللمس بالجلد المتعرض للهواء إلى حساسات أو أجهزة استشعار فيستطيع مثل تحديد مساحة الفراغ الذى يوجد فيه وسعة الشارع الذى يمر به دون أن يراه وأيضا الارتفاع والانخفاض والميل والدوران وأمثالها لهذا السبب وبمشاركة الإذن فى هذه العملية. رابعا: ولتدريب الذاكرة لدى الكفيف إسهام كبير فى تذكر الأشخاص والأماكن والأحداث، فأعرف بعض المكفوفين هم بمثابة المرجع لأسرهم فى تذكر تواريخ الميلاد والوفيات وأرقام الهواتف ونحو ذلك. خامسا: ويخطئ بعض الناس حين يظن أن الشخص الذى فقد بصره يعيش فى ظلام فالحقيقة العلمية أن هذا الشخص يكون صورا بصرية عن أوصاف الأشياء والمعلومات التى تأتى إليه عن طريق الحواس الأخرى فهو حين يتحدث إليك يرسم لك صورة بصرية وحين يدخل إلى مكان فهو يرسم له صورة بصرية أيضا، وهو مثلك تماما حين تجلس مع شخص أو تدخل إلى مكان وتغمض عينيك، ومن هنا تكون تعبيرات (قاهر الظلام) وأغنيات مثل: (يا أمى ما) ليس لها ظل من حقيقة أو واقع لدى الشخص الكفيف، إلا من قبيل الثناء أو التشجيع أو استدرار العطف. وفى النهاية فإن الحواس ومنها حاسة البصر ما هى إلا وسائط – قد تغنى إحداها عن الأخرى- فى توصيل المدركات والمعلومات إلى الذهن والنفس والقلب وهم الذين يتعاملون معها ويقوم القلب باتخاذ القرار بشأنها ولذلك نرى القرآن الكريم يجسد هذه الحقيقة حين يقول: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور) (الحج : 46) ونلحظ فى الواقع أن الناس أربعة: أناس يمتلكون كلا النورين: البصيرة والبصر، وغيرهم مفتقدون للاثنين نجدهم أحيانا بين البشر، وفريق ثالث لا يبصرون وهم يمتلكون حاسة النظر، وآخرون يمتلكون ضياء البصيرة وإن غاب عنهم نور البصر. د. أحمد شلبى - كفيف ومستشار صحة نفسية