بعد أن تسربت ملايين الوثائق من شركة محاماة كبرى فى بنما قبل عام كامل، عكف مجموعة منتقاة من الصحفيين من كل أنحاء العالم يحللون الوثائق لمعرفة كيف يدور العالم السرى لملاذات التهرب الضريبى Tax Havens، فى تلك الأثناء حملت من واشنطن قبل شهور قليلة نسخة من كتاب «الثروات الخفية للأمم: آفة الملاذات الضريبية» للباحث الفرنسى جبريل زوقمان من كلية لندن للاقتصاد وكتب مقدمته توماس بيكتى عالم الاقتصاد الشهير ومؤلف كتاب «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين» الذى نال شهرة وجدلا واسعا فى الأوساط العالمية وحصد جوائز عدة وصنف من ضمن أفضل الكتب فى القرن الحالي. فى تقديم كتاب زوقمان قال العالم بيكتى إن كتاب «الثروات الخفية للأمم» عن الملاذات الضريبية هو أول جهد بحثى اقتصادى جاد يتصدى لتلك المنطقة الغائمة. بعد ظهور أوراق بنما وتصاعد دخان الفضائح، عدت إلى الكتاب الرائع ووجدت معلومات تفسر ما جاء فى الوثائق المسربة التى تجاوزت 11 مليون وثيقة عن ثروات فطاحل الثروة ورجال السياسة والمال من جميع أنحاء العالم ولما وجدت أن المعلومات مغرية بما فيه الكفاية تحدثت إلى مؤلف الكتاب زوقمان حول رأيه فى وثائق بنما، فقدمت إجابات واضحة عن السرطان الناشب فى جسد الاقتصاد العالمى ويحرم الكثير من الشعوب من جزء يسير من ثرواتها. كتاب زوقمان هو دعوة مهمة ليفعل العالم شيئا حيال ويلات الملاذات الضريبية قبل فوات الأوان. فى توصيف الأوراق المسربة يقول زوقمان ل«الأهرام» فى حديث خاص «إن النتائج التى يمكن الخروج بها من أوراق بنما هى أن الإجرام أصبح متأصلاً بعمق فى عمليات الأوفشور، والوثائق تكشف عن أن المؤسسات المسماة الأوفشور على استعداد تام لتقديم الخدمات للمجرمين المعروفين والمسئولين الفاسدين فى انتهاك صارخ لمكافحة غسل الأموال وأبسط قواعد الشفافية الواجبة». وأمام الأرقام المرعبة التى تتحدث عنها وثائق بنما، يقول زوقمان «إن الفساد ليس شيئا مستعصيا على أن نهزمه، ولكن نحن بحاجة إلى اتخاذ نهج جديد لتنظيم الملاذات الضريبية». وسألت الباحث الفرنسى الأصل عن منهج وضع تلك الأنشطة تحت ميكرسكوب الرقابة والشفافية فأجاب: «ليس كافياً أن نسأل ببساطة المؤسسات التى تعمل كملاذات ضريبية امنة تطبيق النظم الدولية، لأنه كما تشير هذه التسريبات، فكثير من مؤسسات الأوفشور لا يوجد لديها أى حافز للقيام بذلك». ويدعو زوقمان إلى أمرين أساسيين من أجل تقليل الأثر الضار لتلك المؤسسات على الإقتصاد العالمى ويقول: «ما نحتاجه هو أمران: الأول: ينبغى على أوروبا والولاياتالمتحدة أن تنفذ عقوبات واضحة ضد المناطق التى تسمح للمؤسسات المالية الخارجية على القانون. فالسؤال هو: لماذا تسمح الدول لمثل تلك الصناعة المالية بالوجود فى جزر فيرجن البريطانية أو جزيرة بنما إذا كان هناك مثل هذا الدليل الذى يتم استخدامه فى تسهيل الجرائم؟ ينبغى تطبيق العقوبات بشكل قاطع، على ان ترفع فى حالة واحدة فقط وهو لو أثبتت هذه الدول أنها قد حددت جميع المستفيدين الحقيقيين من الشركات المسجلة على أراضيها بشكل صحيح». ويمضى زوقمان فى شرح النقطة الثانية التى يقترحها لوضع مجتمع «الأوفشور» موضع المحاسبة بعد الفضيحة الأخيرة فيقول: «الأهم من ذلك، نحن بحاجة إلى أدوات جديدة للشفافية المالية فى أشكال عدة، منها سجلات الثروة وتسجيل المستفيدين الحقيقيين من العقارات فى العالم والأصول المالية. ومن حقق ثروة من شركات وهمية فى بنما، أو جزر فيرجن البريطانية، وما إلى ذلك. وتلك الأموال الموجودة فى بنما وغيرها لا يتم استثمارها فى أوروبا والولاياتالمتحدة ولكنها تضخ فى سوق العقارات فى لندن، والأسهم الأمريكية والسندات الألمانية، وما إلى ذلك. هذه الاقتصادات ينبغى أن تحدد المستفيدين الحقيقيين من هذه الثروة وتسجل الملاك المستفيدين فى «آلية تسجيل مركزية» تكون فى متناول الجمهور. فى كتاب «الملاذات الضريبية» الصادر حديثا يقول المؤلف إن تلك المناطق بدلا من عملها على هامش الاقتصاد العالمي، اصبحت جزءا لا يتجزأ منه وتحولت من مجرد قنوات بسيطة لتجنب سداد الضرائب والتهرب الضريبى فى الواقع إلى عالم واسع لتمويل الأعمال وإدارة الموارد النقدية من الأفراد والمنظمات والدول. لقد أصبحت تلك الملاذات بين أقوى أدوات العولمة، وواحدة من الأسباب الرئيسية لعدم الاستقرار المالى العالمي، وهى اليوم من القضايا السياسية الكبيرة فى عصرنا. نقلت الصورة إلى رونين بالان الخبير والبروفيسور فى جامعة سيتى فى لندن وسألت فى حوار خاص ل «الأهرام» عن التسريبات الاخيرة، فقال «إن التحليل السابق يشير إلى وجود خلل حقيقى تظهره التسريبات خاصة عندما نقول إن الملاذات الضريبية هى فى قلب الاقتصاد العالمي، ولا يعنى وجوده فى قلب النظام أننا نقبل به. فقد أشرنا مراراً إلى أن أنشطة البيزنس والأفراد الأثرياء ينظرون إلى الضرائب على اعتبار أنها مجرد نفقات يجب تجنبها. وتسريبات بنما مجرد عملية إظهار أن تلك ممارسات منتشرة على نطاق واسع. عمل رونين بالان مستشاراً لهيئة الإذاعة البريطانية «بي. بي. سي» فى فيلم تسجيلى حول «جزيرة كايمان» وهى واحدة من أشهر مقاصد التهرب الضريبى وكيف أضرت الممارسات فى تلك الجزيرة بالنظام المالى العالمي. وتوجهت إليه بسؤال عن تأثير الملاذات على الاقتصاد الدولي، فقال «إن تلك الجهات لا توفر عائدات ضرورية للأوعية الضريبية الضرورية والنتيجة أن الأغنياء يزدادون ثراء، والطبقات الوسطى تدفع مزيدا من الضرائب. ودول منظمة التعاون والتنمية تواجه أزمة مالية بسبب انخفاض معدل النمو على المستوى العالمي، وبالتالى ارتفاع معدلات البطالة. من وجهة نظري، تأثيرات هذه الملاذات ضخمة». وعن مدى توافر الإرادة السياسية لدى الحكومات الغربية للعب دور بعد نشر «أوراق بنما»، يؤكد بالان: «نعم يستطيعون، إذا كانوا يريدون، فيمكن للحكومات فى الغرب أن تضع مناطق مثل بنما وجزر فيرجن البريطانية، وجزر كايمان فى «قائمة الخطر» وتطلب معلومات إضافية عن الاستثمار فى تلك المناطق». ويعارض رونان بالان الفرضيات المنتشرة عن النمو المتزايد لتلك الملاذات وزيادة نسبتها من حصيلة الاقتصاد العالمي، ويقول «الأمر ليس كذلك، فى الواقع، هناك تراجع. وتعمل منظمة التعاون والتنمية والولاياتالمتحدة من خلال FATCA والاتحاد الأوروبى على دراسة تأثير تلك الظاهرة. وتظهر أوراق بنما، بالمناسبة، أن هناك بعض الانخفاض فى عدد الشركات فى جزر فيرجن البريطانية وبنما». ومن جانبه، يتحدث الباحث الفرنسى زوقمان عن ضرورة توافر الإرادة السياسية للوقوف فى وجه التهرب الضريبى وغسل الأموال ويقول «أنا متفائل بأن التغيير الإيجابى الذى يمكن أن يحدث، إذا كانت هناك إرادة سياسية فى أوروبا والولاياتالمتحدة لإنشاء السجلات المالية المطلوبة لتحقيق الشفافية فى النظام المالى الدولي». ومن واقع المطالبة بوجود سجلات «شفافة» على المستوى العالمي، تطرق الحوار مع زوقمان إلى موقف مصر وإمكانية الاستفادة من الأوراق أو الوثائق المسربة من أجل العمل على استعادة الأموال العامة المنهوبة والتى تتردد أرقام ضخمة بشأنها وكثير منها فى مناطق «الأوفشور»، يقول الباحث الفرنسى «هذه السجلات فى الولاياتالمتحدة وأوروبا يمكن أن تصبح قرينة تمكن مصر من استعادة الأموال غير المشروعة التى قام بتهريبها بعض كبار المسئولين إلى الخارج، حيث يتم استثمار هذه الأموال إلى حد كبير فى أوروبا والولاياتالمتحدة». يقول توماس بيكتى فى مقدمة كتاب «الثروات الخفية للأمم» آنك لو كنت مهتما بمسألة غياب المساواة والعدالة الدولية ومستقبل الديمقراطية فعليك أن تقرأ كتاب «زوقمان» لأنه أفضل ما كتب عن الملاذات الآمنة وما يمكن أن نفعل حيالها، فهو يقدم التاريخ الموجز لتلك الظاهرة وكيف ظهرت وتطورت لتصبح ما هى عليه اليوم، وبشكل تدريجي. فى لغة الأرقام يتحدث زوقمان فى الفصل الثاني، فيقول أن ثلاثة أماكن تتربع على عرض التهرب الضريبى فى الأوفشور وهى جزر فيرجن البريطانية ولوكسمبورج وسويسرا ويصل زوقمان إلى تجميع أرقام غير مسبوقة عند الأموال المنهوبة من الشعوب فى «الأوفشور» ويقول إن الثروة المالية العائلية توجد فى «الملاذات الضريبية» وتمثل تلك الثروة إجمالى كل الإيداعات المصرفية وحصص الأسهم والسندات والأسهم فى الصناديق المشتركة وعقود التأمين التى يمتلكها أفراد فى جميع أنحاء العالم ومصفاة من أية ديون. ويقدر حجم تلك الثروة المالية العائلية بحوالى 95.5 تريليون دولار وهو الإجمالى السابق يوجد قرابة 7.6 تريليون دولار فى جعبة شركات الأوفشور بنسبة تقدر ب 8 %. وعلى سبيل التبسيط، لو حسبنا إجمالى الدين العام لدولة اليونان، يلعب دورا أساسيا فى أزمتها مع الاتحاد الأوروبي، سنجد أن حجم دين اليونان 350 مليار دولار فقط وهو ما يبرهن على ضخامة حجم الأموال فى الملاذات الضريبية. فى سويسرا وحدها يوجد 2.5 تريليون دولار وهو ثلث حجم الثروة فى الأوفشور وتتوزع النسبة الباقية على مناطق تمنح الأفراد مزايا كبيرة مثل سنغافورة وجزر كيمان ولوكسمبورج وجيرسى وهونج كونج وجزر البهاماس. والأكثر طرافة فى الأمر أن كثيرا من البنوك السويسرية تقوم بالفعل بإدارة أرصدة فى مناطق أوفشور أخرى وفى أحيان كثيرة تديرها بشكل مباشر من مقراتها فى زيورخ وجنيف. قد قام زوقمان بتعقب الثروات العائلية ووجد أن الأفراد لا يقومون بإخفاء أموالهم فى حسابات مصرفية فى الملاذات الضريبية دون تحريكها كما يتصور البعض، ولكنهم يقومون بعد وضعها فى الأوفشور باستثمارها بالطريقة نفسها التى يستثمرون حصصهم فى بنوك لندن ونيويورك أو سيدني، فهم يقومون بشراء أوراق مالية وهى عبارة عن سندات وأسهم وحصص فى الصناديق المشتركة. الأموال فى شركات الملاذات الضريبية لا تنام ولكن يجرى استثمارها فى الأسواق المالية العالمية من مقار البنوك فى زيورخ وجنيف. ووحدها سويسرا وإلى حد ما دولة لوكسمبورج تقدم معلومات مباشرة عن الأسهم فى ثروات الأوفشور التى تديرها بنوك محلية. ويصل إجمالى الأرصدة المعروف مصدرها أو أصحابها إلى 1.6 تريليون دولار) 20% (فى مقابل 60 تريليون دولار لا يوجد لها أصحاب معلنون) 80% (ويبلغ إجمالى العوائد المفقودة من الاحتيال الضريبى فيما يخص الثروات 5 مليارات دولار والخسائر السنوية لعائدات الضرائب 190 مليار دولار والعوائد المفقودة من الاحتيال على ضريبة الدخل 120 مليار دولار. من ناحية أخري، تكشف أرقام زوقمان عن وجود 87.9 تريليون دولار مودعة فى الدول الأصلية بينما توجد 7.6 تريليون دولار فى الأوفشور حول العالم من إجمالى 95.5 تريليون دولار هو إجمالى الثروة المالية العالمية. { تكلف الملاذات الضريبية حكومات العالم مئات المليارات من الدولارات سنويا هى بوابة تشجيع الفساد وتقوض سيادة القانون وجزء من نمط مقلق لممارسات الشركات تفوق قدرة الدول على احتواءها وهناك وجه غير قانونى لتلك المعاملات غير قانونى صريح. الثروة الخفية للأمم هو مساهمة مهمة إلى حد كبير فى النقاش الدائر حاليا حول كيفية ضبط أنظمة ضريبة الدخل فى العالم، والتى تعود أصولها إلى أكثر من قرن. ويقدر زوقمان حصة الثروة الضائعة فى أفريقيا، المحتفظ بها فى الخارج بنحو 30 فى المائة، بينما فى روسيا والشرق الأوسط هى فوق 50 فى المائة. بحسب هذه الأرقام يفقد العالم نحو 200 مليار دولار من عائدات الضرائب للدخل فى جميع أنحاء العالم وهو عدد كبير وإن كان أقل بكثير من بعض التقديرات الأخري. على سبيل المثال، قال جوزيف جوتنتاج فى عام 2007 إن الولاياتالمتحدة خسرت وحدها 50 مليار دولار سنويا من التهرب غير القانونى فى الملاذات الضريبية، استنادا إلى بيانات من مجموعة بوسطن الاستشارية وميريل لينش. قد يكون هذا الرقم أقل الآن بسبب صدور قانون ضرائب الحسابات الخارجية لعام 2010 والمعروف بFATCA، وهو القانون الذى يفرض على البنوك الأجنبية والمؤسسات المالية الأخرى تقديم تقارير الحسابات التى يحتفظ بها الأمريكيون لمصلحة الضرائب أو مواجهة فرض ضريبة 30 فى المائة. يقترح الباحث الفرنسى عدة خطوات لوقف الإهدار فى الثروة العالمية، منها أن يكون هناك «سجل عالمى للثروة المالية» وتسجيل أملاك الأسهم والسندات ويكون هذا السجل بمثابة «مستودع مركزي» يجرى التنسيق بشأنه من قبل الحكومات والمنظمات الدولية، ويسمح السجل العالمى للإدارات الضريبية الوطنية بمكافحة التهرب الضريبى عن طريق فرض الضرائب على تدفقات دخول الثروة ورأس المال والأسهم. ويشير إلى أن هناك سجلات خاصة بالموجودات المالية بالفعل، مثل تلك التى تحتفظ بها شركة الإيداع فى الولاياتالمتحدة أو من قبل « كليرستريم « فى لوكسمبورج وفكرته هو الجمع بينهما وتوسيع مجال البيانات ونقل ملكية البيانات للجمهور. ويوضح زوقمان أن النظام الجديد يمكن أن يعمل جنبا إلى جنب مع التبادل التلقائى للمعلومات بين البنوك من جميع الملاذات الضريبية والسلطات الضريبية الأجنبية، وهو ما يعنى أن السجل المالى العالمى يوجه ضربة قاضية للسرية المالية. فى حال رفض بعض الملاذات الضريبية التعاون، فى هذه الحالة يقترح الخبير العالمى فرض عقوبات تتناسب مع التكلفة التى تتسبب فيها الملاذات الضريبية للدول الأخري. على سبيل المثال، يقترح تعريفة بنسبة 30 فى المائة على السلع المستوردة من سويسرا فى بعض دول أوروبا الغربية وهو ما يكفى لحث السويسريين على التعاون. حسب أكثر من خبير استطلعت «الأهرام» رأيهم فإنه إذا لم يتفق العالم على خطة واضحة حول الملاذات الضريبية، فسوف يستمر الأغنياء فى تجنب الضريبة التصاعدية على الدخل. وإذا ما حدث ذلك، فإن أبناء الطبقة الوسطى العادية فى دول كثيرة سيكونون مترددين فى دفع الضرائب المستحقة عليهم حيث يرى الخبراء أن بنيان النظام الضريبى يقوم على «التعاون الطوعي»، وإذا رفضت غالبية من الأمريكيين، على سبيل المثال، التعاون فلا يمكن لمصلحة الضرائب إجبارهم على ذلك. ومثلما أثبتت التجربة اليونانية فى الأزمة الأخيرة، لو تأسست لمرة واحدة ثقافة ضريبية تقوم على الامتناع عن الدفع، فإنه من الصعب جدا تغيير الموقف.