كنا جلوسا على مقهى فى وسط القاهرة عندما سألنى أحد الاصدقاء: بعد إذنك، هل ستواصل الكتابة فى اكتشافك »وصف افريقيا »، وبالاصح اكتشافك الوثير كما ذكرت؟ ، الأهم .. هل حادثك أحد من المسئولين او حتى مذيع من برامج الصحافة بالفضائيات لمناقشة ماكتبت، أم أنه صار كلاما مجرد كلام ؟ نظرت الى محدثى .. شاب فى منتصف الثلاثينيات، خريج جامعة، واحد من الآلاف من شبابنا العاطل الباحث عن فرصة عمل هنا او فى أى مكان فى العالم حتى لو كان بلدا افريقيا على حد وصفه، نظرت اليه ولم آخذ كلماته ببساطة ورحت بعمق شديد أفكر فيها، والتفكير يقودونى إلى السؤال تلو السؤال حتى اصل فى النهاية إلى ذلك اللغز : لماذا نحن المصريين فقدنا المعرفة والتواصل مع افريقيا، أهو السادات وعشقه للغرب وامريكا، أم حسنى مبارك وعقدة محاولة تغتياله الفاشلة، وماهى الوسيلة لكى نعود اليها وتعود الينا كما كانت فى فترة محمد على وعبد الناصر .. ولكن ما لفت انتباهى وازعجنى اكثر فى تساؤلات الشاب هو استغرابه الشديد لإصرارى على استكمال الحديث فى هذا الشأن، فهو يعتقد أن الناس لم تعد مشغولة بهذه القضايا، وإذا به يبرهن على ذلك بأن غالبية المناقشات التى دارت بيننا فى الجلسة كلها تقريبا تركزت حول معارك توفيق عكاشة ومرتضى منصور وبرلمان عبد العال وميدو وحبس ريهام سعيد، ولم ينزلق أحد ولو على سبيل زلة اللسان بالحديث عن اثيوبيا وسد النهضة او افريقيا واهميتها الاقتصادية والسياسية بالنسبة لنا كأنما يطالبنى أن «افضها» سيرة واتوقف عن بذل جهد ضائع فى قضايا عفا عليها الزمان . باختصار شديد نظرت الى محدثى ثانية، ورحت بانفعال أنظر إلى جيران فى المقهي، جالسين وواقفين، مستمعين وصامتين وأقول : لقد حللت النصائح التى تزجى الى وللآخرين من الذين يحاولون البحث والمعرفة فى هذه المنطقة، فوجدت أن 90% منها على الاقل يبدأ بحرف الاثبات .. إكمل أكتب .. حتى اصبحت النصيحة تلاحقنى فى منامى وتوقظنى من نومى بان أقف فى قلب ميادين القاهرة لو استطعت لااحكى لكم عن افريقيا وبلدانها التى فقدناها وتاهت منا، لاسيما الحبشة وماادراك ما الحبشة أيها الغافلون .. وهنا أدرك الحاضرون قدرتهم على المجاملة، وإذا بهم يهتفون .. حبشة .. حبشة .. اثيوبيا اثيوبيا، فكانت تلك الوقفة الزاعقة الحاسمة او حكايات التاريخ القديمة عن اثيوبيا وصلتنا بها، وكيف علاقتنا بها كانت اقدم من التاريخ نفسه، وكيف أنها تحولت الى حالة عشق واهتمام ومعنى للحياة من الفراعنة الى محمد على وعبد الناصر والانبا كيرلس حتى صارت رمزا للكراهية والاغتيال فى عهدى السادات ومبارك وسدا للصراع ونذر الحرب الوشيكة فى العهد الحالى وبلدا مجهولا لنا مثل الطلاسم لانعرف عنه شيئا. المستعمرون وأرض الوجوه السمراء قد تسمع من أى مصرى كلاما عن سد النهضة وخطورته والخطر الذى يهدد بلادنا مثل : بعد 6 اشهر لن تكون هناك مياه، بيقولوا السد قد ينهار ويغرق اديس ابابا كلها وربما الخرطوم .. ربنا يستر ولاتغرق اسوان .«أنا شايف ان ضرب السد مهمة وطنية وحسم الموقف لابد أن يكون جادا وقويا فلم يعد هناك وقت .. ولكن ابدا لن تسمع من يحدثك عن هذا التاريخ القديم والحكايات النادرة عن هذه العلاقات التى تربط مصر بأرض الوجوه السمراء وهذا هو معنى كلمة اثيوبيا التى صارت علما على تلك البلاد، لدرجة انه إذا بحثت عن الحبشة فى المكتبة فلن تجد إلا النذر اليسير ومن ثم كان لابد أن استكمل مابدأته فى الاسبوع الماضى من حديث عن اثيوبيا التى لايعرفها المصريون .. وخاصة إذا كانت هذه المعلومات تتعلق بمدى حقيقة دور اليهود فى هذا البلد واهتمام وتربص الغرب ولاسيما بريطانيا بالوجود المصرى وترسخه هناك ليس من زمن عبد الناصر فحسب، إنما من ايام الفراعنة.. وإسمع ياسيدي: فى كتاب أضواء على الحبشة والذى صدر عن دار المعارف عام 63 كتب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مقدمة للكتاب بعنوان «اثيوبيا .. دولة شقيقة» حرص فى بدايتها على القول: إن بيننا وبين الحبشة من علاقات الود الدائم مالا يكون مثله بين الاخوين الشقيقين، وهو تعبير يفسر لنا كم نحن مجتمعين متلاصقين متقاربين، لنا من القرابة الف نوع ونوع، فنحن او كما يقول عبد الناصر بلدان متجاوران فى قارة ضرب عليها الاستعمار نطاقه، لتكون له دون اهلها كالبقرة الحلوب، تدر له من لبنها مالا تدر لفصيلها المهزول. وراح الزعيم الخالد يدلل بالمزيد من المعانى قائلا : نحن شريكان فى هذا النهر الخالد الذى يفيض الخير والبركة على شاطئيه من هضبة الحبشة إلى المقرن من ارض السودان إلى المصب فى البحر المتوسط، فكل ذرة من ذرات ذلك الماء المتدفق فى مجراه بين المنبع والمصب، تتناجى همسا بأمان مشتركة تلتقى عندها عواطف المصريين والسودانيين والاحباش جميعا .. ولكن الاستعمار الباغى لايريد لشعوب هذا الثلاثى «مصر والسودان واثيوبيا» ان تعيش على مودة ووئام، فالمستعمر الصليبى عندما احس بذلك فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر راح يلتمس اسبابه ليحمل الحبشه باسم الصليب على الانضمام الى معسكره، ولكن فشلت محاولاته، وكذلك المستعمر البرتغالى فى القرن الخامس عشر، فراح يسعى سعيه ليوقع بين المسلمين والمسيحيين هناك لعله يجد سبيلا لتثبيت اقدامه، لكنه ايضا فشل وباء بالخذلان، وفى القرن التاسع عشر أحس المستعمر البريطانى والفرنسى والايطالى فاخذ باسم المسيحية يحاول محاولة اخرى لعلها تعوض فشل محاولات الصليبين، يقطعون بها اوصالا وينشئ علاقات ويفصم علاقات اخري، ولكن حيلته انكشفت وعاد مثل غيره يجر أذيال الخيبة حتى جاء الامريكى والاسرائيلي، فاخذا ينسجان حبالا من المؤمرات الجديدة ليوقع فيها فريسته ويبدوا ان ذلك قد حدث لكن عبد الناصر ورغم تفاؤله الشديد بفشل كل هذه المحاولات كان يرى هذه المحاولات الاستعمارية قد خلفت فى قلوب الاحباش الحرص والحذر وسوء الظن بكل مايأتى من وراء البحار، ففرضوا على انفسهم نوعا من العزلة تقيهم شر الاستعمار حتى انقطعوا عن العالم زمانا طويلا من العزلة، لايكاد أحد يذكرهم أو يعرف من حقائق الحياة عن بلادهم شيئا، فإستوى فى الجهل بهم وباحوالهم البعداء ذوو المطامع الاستعمارية والاقارب من ذوى الجوار والاخوة المحبين لهم، ولولا الغارة التى شنها موسولينى على بلادهم فى اوائل الاربعينات وربما قبل ذلك بقليل، لظلوا غرباء عن تطورات الحياة العامة والعالم الحديث، ولكن صدق من قال: »رب ضارة نافعة» فإن هذه الغارة الايطالية وقد انتهت إلى ما انتهت اليه واستردت الحبشة حريتها وجعلت اسمها يعود يتردد من جديد على كل لسان.. ويختتم الزعيم الخالد مقدمته بنصيحة تاريخية يقول فيها : اليوم وبعد ان صارت امورنا بايدينا وجب علينا أن نلقى » اضواء على الحبشة » تكشف للمصريين والعرب والافريقيين جميعا عن بعض مايجهلون من الحقائق الغائبة عن ذلك القطر الشقيق، ليكون لهم من العلم بها سبب الى توثيق علاقات الاخاء والمودة بين الشعبين .. ولكن يبقى السؤال: ماهى هضبة الحبشة واوصافها التى مازلنا نجهلها ومن هم اهلها واصلهم وفصلهم وكيف جاءوا اليها؟ أنهار وأساطير من العطش تقول الوثائق إن بلاد الاحباش تقع على بلاد صخرية مترامية الاطراف بين وادى اعالى النيل وسهول الصومال، حدها الشرقى واضح المعالم، فهو سلسلة جبال تمتد بمحاذاة ساحل البحر الاحمر مسافة 300 كيلو متر الى منطقة اسمها مصوع، ثم تنحرف جنوبا حتى تصل الى اديس ابابا العاصمة، ويقال هنا ان اديس ابابا تقع فى مكان عظيم الارتفاع اكثر من 8000 قدم فوق سطح البحر، حتى إنك حين تسير فى موسم الامطار تكاد تشعر بأن رأسك قريب من السحب ويعطيك فكرة واضحة عما كان عليه الفيضان، وهضبة الحبشة تنحدر بصفة عامة نحو الغرب فتسير وديانها وانهارها فى هذا الاتجاه، إلا أنه ومن عظمة الاقدار أن يكون الجانب الاكبر من مياه الامطار الغزيرة التى تهطل على الهضبة تنحدر نحو الجانب الشمالى الغربى وهو باتجاه نهر النيل وذلك عن طريق ثلاثة روافد انهار وهى عطبرة فى الشمال، والسوباط فى الجنوب، وبينهما نهر آباى الذى ينبع من بحيرة تسانا العميقة، ولمن لايعلم فإن فيضان نهر آباى بالامطار الغزيرة التى تهطل على هضبة الحبشة هو الذى كان يسبب فيضان النيل السنوى قبل بناء السد العالى .. وهنا لابد أن نحكى ماكانت ومازالت تتناقله الاساطير الحبشية التى يتناقلها الابناء والاحفاد مما رسخ لديه اعتقادا يزعم إن اياديهم تقبض على عنق مصر .. فقد جاء ضمن هذه الاساطير أن مصر اصيبت بمجاعة بسبب عدم فيضان النيل عام 1093، فاوفد خليفة المسلمين وقتها بطريرك الاسكندرية حاملا افخر الهدايا واندر التحف الى ملك الاحباش، فاستقبله الملك آنذاك استقبالا عظيما ولبى رجاءه، ويقال ان منسوب النيل فى تلك الليلة ارتفع الى ثلاثة اذرع، أى بما يعادل 15 قدما، وفى اسطورة اخرى جاء أن احد الملوك من اسرة » زجوى »عندما اراد ان يصب غضبه على بعض «المصريين المعادين للمسيحية من وجهة نظره»، عمد الى تحويل روافد النيل نحو المحيط الهندى وكان ذلك فى القرن الثالث عشر، لكن الملك مات ومات المشروع، وهناك حكايات اسطورية اخرى كثيرة عن اقامة سدود على نهر يباى لاتنقطع عن النيل والمحاولات التى سعى لتنفيذها ملوك الحبشة لكنها لم تتم لتوجساتهم وخوفهم الذى تاسس فى نفوسهم نتيجة العزلة التى طالت عليهم وانتهت بقدوم حملة موسوليني، فلقد عاش الاحباش فى عزلة طويلة حقا، ولم يكن هناك سبيل لاتصالهم بالعالم الخارجى وبمنية البحر المتوسط سوى الموانئ الحبشية فى البحر الاحمر، وهى الموان التى جاء منها بعد ذلك الفاتحون العرب ونشروا الدين الاسلامى واللغة العربية، والثقافة اليونانية وانتشرت معها الديانة المسيحية حتى اصبحت هى الديانة الرسمية، ثم البرتغاليون. سر التسمية والحقيقة، لم اتوقع أن ينتسب اصل الاحباش الى العرب، الى قبائل يمنية على وجه الخصوص الى سبط حام، وهم فريقان، الذين يعيشون فى المناطق الشمالية الغربية، ويمتون بصلة القربة الى قبائل الدناكل والصوماليين التى تضرب فى صحراء النوبة وسكان الجنوب، ويقال انه فى غابر الزمان وقبل نحو الف عام من ميلاد المسيح، عبرت بعض القبائل العربية اليمنية البحر الاحمر واستقرت على شاطئ الصومال، ثم تغلغلت إحدى هذه القبائل، وتدعى بالحبشات الى المنطقة الشمالية من الهضبة فاطلق عليها اسم »حابش» ومنه اشتقت اسم الحبشة تحريفا، وقبيلة اخرى اسمها » بنى عجازى » ومنها اشتقت تسمية اللغة التى يفخر الاحباش بآدابها القديمة والتى مازالت تنظم لهم التراتيل الدينية فى الكنائس حتى يومنا هذا. بطريرك وخديو وإمبراطور ولكن المثير حقا هو التاريخ الذى سطره الفراعنة على جدرانهم ونقشوه بالنقوشات الملونة الجذابة، التى أكدت أن نفوذ الدولة الفرعونية امتد إلى الحبشة وإثيوبيا والصومال وبلاد بونت وكينيا وبالتالى فإثيوبيا هى الفرع من تكوين مصر الفرعوني، وهذا ثابت من الروايات الفرعونية ونقوش المعابد وكتابات المؤرخين ولا مجال فيه لمزايدة أو ادعاء. لقد امتدت الدولة النوبية من مصر لشمال السودان وعندما هاجم المغول الشرق الإسلامى كانت ديانة النوبة هى المسيحية فقد جاء المغول لمصر بعد تدمير بغداد عام 1258 ولكن القائد بيبرس والسلطان قطز أبادوا المغول عام 1260 فى موقعة عين جالوت، ثم دخلا النوبة واحتلاها ثم دخل أهل النوبة فى الإسلام بعد ذلك رويدا رويدا. أما الزعيم جمال عبد الناصر، فقد أنشأ منظمة الوحدة الإفريقية عام 1957 وجعل من إثيوبيا مقرا لها، لأنه كان سياسيا حكيما ورغبة منه فى إمداد أواصر التعاون مع الكنيسة الإثيوبية التى هى جزء من الكنيسة المصرية الأم. إنما المحير ورغم ذلك التاريخ الطويل للعلاقة بين الكنيستين المصرية والاثيوبية والتى ترجع إلى النصف الأول من القرن الرابع الميلادى عندما قام »أثناسيوس الرسولي« بتعيين أول أسقف لإثيوبيا وهو »الأنبا سلامة« فى عام 330م. ومنذ ذلك الحين جرى التقليد أن يكون رأس الكنيسة الاثيوبية أسقفا مصريا يرسله بطريك الإسكندرية، مما جعل منذ ذلك التاريخ كنيسة الإسكندرية الكنيسة الأم لكنيسة إثيوبيا، لنرى دورا صريحا للتدخل فى دبلوماسية حل مشكلة سد النهضة والذى تسعى الدول الاستعمارية من وراء هذه الازمة الى نشوب حرب مياه شاملة تقضى على المودة بين الشعبين، فحكايات المصالحات التى قامت بها الكنيسة المصرية على مدار التاريخ القديمة جديرة بالتسجيل والتذكير هنا. فى عام 1856 حدثت مناوشات بين الجيش المصرى والجيش الإثيوبى وكانت السودان جزءا من مصر وقتها .. ولما زادت الأمور على حدها ولاحت الحرب مع اثيوبيا فى الأفق أوعز الباب العالى العثمانى الى خديوى مصر سعيد باشا بان يوفد البابا كيرلس الرابع الى اثيوبيا للتوسط وحل المشكلة ورغم خطورة الأمر وافق البابا كيرلس ومضى فى رحلة استغرقت مئة يوم حتى وصل إلى مشارف اثيوبيا وكان السفر خطرا فى تلك الأيام. وكان وقتها إمبراطور اثيوبيا رجلا صارما وعنيفا واسمه ثيودورس ولكن عندما سمع بقدوم البابا كيرلس استقبله على بعد ثلاثة أيام من قصره وقبل يديه ومشى خلفه وكان كريما جداً معه. ولما تكلم البابا مع الإمبراطور بخصوص ما يحدث فى بلده وقال له ان العلاقات بين مصر والحبشة قوية وقديمة واقتنع الملك وسحب قواته من على حدود مناطق الخلاف.. ولكن كانت هناك مؤامرات تحاك فى الظلام واحدة فى مصر والأخرى فى اثيوبيا.. وكان البابا كيرلس السادس بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية قد تدخل لدى إمبراطور إثيوبيا الأسبق »هيلاسلاسي« فى حل أزمة متعلقة بمياه النيل أثناء حكم الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، لوجود روابط قوية بين الكنيستين المصرية والإثيوبية، ولأن الرئيس عبد الناصر كان بعيد النظر فى ذلك، فقد أدرك أن توثيق الروابط بين مصر وإثيوبيا يضمن حماية الأمن القومى المصري، فاولى اهتماما شديدا بتوثيق العلاقات بينه وبين الإمبراطور هيلاسيلاسى حاكم الحبشة »إثيوبيا«، مستغلا كون مسيحيى إثيوبيا من الطائفة الأرثوذكسية، ودعا الإمبراطور هيلاسيلاسى لحضور حفل افتتاح الكاتدرائية المرقسية فى العباسية عام 1964.. وللحكايات بقية إن كان فى العمر بقية.