بوتين: زيادة المدفوعات بالعملات الوطنية يقلل من المخاطر الجيوسياسية    الزمالك يعلن رسميا المشاركة فى نهائي السوبر المصري    افتتاح مقر جديد ل «الجوازات» بالمجمع الأمني في القاهرة الجديدة    تعامد الشمس على معبد أبوسمبل| ظاهرة فلكية مدهشة تجذب آلاف السياح    بعد «برغم القانون».. محمد القس: لهذا السبب أبتعد عن دراما رمضان 2025| حوار    دَخْلَكْ يا طير «السنوار»!    البورصات الأوروبية تغلق منخفضة مع ترقب تحركات الفائدة    لياو يقود تشكيل ميلان ضد كلوب بروج في دوري أبطال أوروبا    350 ألف غرامة| إيقاف حارس الأهلي السابق 4 أشهر    وزارة المالية تعلن موعد صرف مرتبات شهر أكتوبر 2024 للعاملين بالدولة    «دفاع النواب» توافق على مشروع قانون «لجوء الأجانب».. وإنشاء لجنة دائمة تتبع مجلس الوزراء    حابس الشروف: مقتل قائد اللواء 401 أثر في نفسية جنود الاحتلال الإسرائيلي    فيلم "المستريحة" ينهي 90% من مشاهد التصوير    نتنياهو: بحثت مع بلينكن ضرورة وحدة الصف فى مواجهة التهديد الإيرانى    أمين الفتوى بدار الإفتاء: الصبر أهم مفاتيح تربية الأبناء والتخلص من القلق    فساد تطعيمات السحائى لطلاب المدارس؟.. "الصحة" ترد علي الفيديو المتداول    بلاغ للنائب العام.. أول رد من الصحة على مروجي فيديو فساد التطعيمات    منافس بيراميدز - بعد تعادلين في الدوري.. الترجي يعلن رحيل مدربه البرتغالي    أمين الفتوى: النية الصادقة تفتح أبواب الرحمة والبركة في الأبناء    قطار صحافة الدقهلية وصل إدارة الجمالية التعليمية لتقييم مسابقتى البرنامج والحديث الإذاعى    إعادة تنظيم ضوابط توريق الحقوق المالية الناشئة عن مزاولة التمويل غير المصرفي    صفة ملابس الإحرام للرجل والمرأة.. تعرف عليها    باحث سياسي: الاحتلال أرجع غزة عشرات السنوات للوراء    محافظ أسوان يتفقد مشروع إنشاء قصر الثقافة الجديد في أبو سمبل    صور من كواليس مسلسل "وتر حساس" قبل عرضه على شاشة "ON"    هبة عوف: خراب بيوت كثيرة بسبب فهم خاطئ لأحكام الشرع    صلاح البجيرمي يكتب: الشعب وانتصارات أكتوبر 73    وصول عدد من الخيول المشتركة فى بطولة مصر الدولية للفروسية    مساعد وزير الصحة: تنفيذ شراكات ناجحة مع منظمات المجتمع المدني في مختلف المحافظات    النائب العام يلتقي نظيره الإسباني لبحث التعاون المشترك    أزمة نفسية تدفع سائقا للقفز في مياه النيل بالوراق    ولى العهد السعودى وملك الأردن يبحثان تطورات الأوضاع بمنطقة الشرق الأوسط    ظل كلوب يخيم على مواجهة ليفربول ولايبزيج    بعد تصريحات السيسي.. الحكومة تطلب من "صندوق النقد" مد أجل تنفيذ إصلاحات البرنامج الاقتصادي    غادة عبدالرحيم: الاستثمار في بناء الإنسان وتعزيز الابتكار أهم ما تناولته جلسات مؤتمر السكان    «سترة نجاة ذكية وإنذار مبكر بالكوارث».. طالبان بجامعة حلوان يتفوقان في مسابقة دبي    وزير التعليم العالي: بنك المعرفة ساهم في تقدم مصر 12 مركزًا على مؤشر «Scimago»    ذوي الهمم في عيون الجامع الأزهر.. حلقة جديدة من اللقاء الفقهي الأسبوعي    بعد التحرش بطالبات مدرسة.. رسالة مهمة من النيابة الإدارية للطالبات (تفاصيل)    «القومي للطفولة والأمومة»: السجن 10 سنوات عقوبة المشاركة في جريمة ختان الإناث    مقابل 3 ملايين جنيه.. أسرة الشوبكي تتصالح رسميا مع أحمد فتوح    وزيرة التضامن ب«المؤتمر العالمي للسكان»: لدينا برامج وسياسات قوية لرعاية كبار السن    السجن المشدد 6 سنوات ل عامل يتاجر فى المخدرات بأسيوط    رئيس "نقل النواب" يستعرض مشروع قانون إنشاء ميناء جاف جديد بالعاشر من رمضان    كوريا الشمالية تنفي إرسال قوات لروسيا لمساعدتها في حربها ضد أوكرانيا    حقيقة إلغاء حفل مي فاروق بمهرجان الموسيقي العربية في دورته ال32    فيفي عبده تتصدر تريند جوجل بسبب فيديو دعم فلسطين ( شاهد )    حيلة ذكية من هاريس لكسر ترامب في سباق الرئاسة الأمريكية.. النساء كلمة السر    الريان ضد الأهلي.. الراقى يحقق أقوى انطلاقة آسيوية بالعلامة الكاملة    الرئيس الإندونيسي يستقبل الأزهري ويشيد بالعلاقات التاريخية بين البلدين    الاعتماد والرقابة الصحية تنظم ورشة عمل للتعريف بمعايير السلامة لوحدات ومراكز الرعاية الأولية    وزير الزراعة يطلق مشروع إطار الإدارة المستدامة للمبيدات في مصر    نائب وزير المالية: «الإطار الموازني متوسط المدى» أحد الإصلاحات الجادة فى إدارة المالية العامة    انعقاد مجلس التعليم والطلاب بجامعة قناة السويس    تفاصيل جلسة حسين لبيب مع رئيس اتحاد الكرة بشأن نهائي كأس السوبر المصري    مواعيد صرف مرتبات أكتوبر، نوفمبر، وديسمبر 2024 لموظفي الجهاز الإداري للدولة    مصرع طفل سقط من الطابق الثانى بمنزله بالشرقية    «إنت مش مارادونا».. مدحت شلبي يهاجم نجم الزمالك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطريق إلى كوريا الجنوبية..... كيف فعلها الجنرال بارك؟
نشر في الأهرام اليومي يوم 26 - 02 - 2016

استندت معظم التجارب التنموية الآسيوية إلى نظرية «الدولة التنموية»، وهو نمط اتسم بعدد من الملامح، أبرزها محورية دور الدولة فى إدارة وتوجيه عملية التنمية،
ونمط محدد من العلاقة بين الدولة وغيرها من الفاعلين الاقتصاديين. وتمثل تجربة كوريا الجنوبية أحد النماذج المهمة داخل الخبرات الآسيوية بشكل عام، وتجارب الدول التنموية بشكل خاص.
وتؤسس الأدبيات للتجربة التنموية الكورية بمرحلة الجنرال «بارك تشونج هي» Park Chung Hee (1962- 1979). فرغم الدور المهم أيضا الذى لعبه الرئيس شون دو هوان Chun Doo Hwan (1980- 1988) فى استكمال التجربة الكورية، لكن تظل مرحلة بارك هى الأهم بالنظر إلى الدور الذى لعبه فى وضع أسس تلك التجربة. فقد شهدت مرحلة بارك تأسيس العديد من المؤسسات المهمة التى كان لها دورها الكبير فى تطوير وتطبيق إستراتيجيات التنمية مثل «مجلس التخطيط الاقتصادي»، وإنشاء الأذرع البحثية للحكومة الكورية مثل «معهد التنمية الكوري» (KDI) الذى أنشئ سنة 1971 لتقديم التحليلات والبحوث والبدائل ذات الصلة بالسياسات الاقتصادية، و»المعهد الكورى المتقدم للعلوم والتكنولوجيا» (KAIST) الذى أنشئ فى فبراير 1971 للقيام بأنشطة البحث والتطوير وتخريج الباحثين المتخصصين فى مجالات العلوم والتكنولوجيا،بالإضافة إلى «المؤسسة الكورية لترويج التجارة» KTPC (1962) بهدف الترويج للصادرات الكورية. وفى جميع الحالات، أدت هذه السياسات إلى تأسيس دور أكبر للبيروقراطية فى عملية التنمية. كما استحدثت فى عهد بارك آلية الخطة الخمسية للتنمية، حيث بدأت الخطة الخمسية الأولى فى سنة 1961. لكن الأهم، مما سبق ما شهدته مرحلة بارك من تطوير للسمات الهيكلية للبيروقراطية الكورية، فى اتجاه تعظيم دورها التنموي.
مثلث «الرئيس- البيروقراطية- قطاع الصناعة»
ارتبطت تجربة الدولة التنموية فى كوريا بوجود مثلث قوى ضم كلا من البيروقراطية، والسلطة السياسية ممثلة فى رئيس الدولة، والقطاع الخاص الصناعي، حيث مثلت البيروقراطية أحدى الأدوات الرئيسية فى إدارة العلاقة بين السلطة السياسية وقطاع الصناعة. ولم تأخذ العلاقة بين القوى الثلاث نمطا واحدا، فقد تطورت لتأخذ أنماطا مختلفة وفقا لطبيعة إستراتيجيةوسياسات التنمية. ولم يقتصر الأمر على تغير نمط العلاقة بين القوى الثلاث، ولكنه امتد ليشمل أيضا تغير موازين القوى بين أجنحة البيروقراطية المعنية بعملية التنمية والتصنيع. وبشكل عام، يمكن التمييز بين ثلاث مراحل فى العلاقة بين أضلاع هذا المثلث.
امتدت المرحلة الأولى خلال الفترة (1961- 1971)، واتسمت بتوسع ودعم دور البيروقراطية فى مواجهة قطاع الصناعة، ولكن ظلت البيروقراطية أداة مهمة فى يد الرئيس بارك لضمان استقلالية الدولة فى مواجهة القطاع الخاص. وجاء تطور هذا النمط نتيجة للظروف الاقتصادية والسياسية التى سبقت وصول بارك إلى السلطة؛ فقد أدى انتشار الفساد والتضخم خلال فترة الرئيس «ري» Rhee إلى تصاعد الاحتجاجات الطلابية فى أبريل 1960، انتهت بسقوط نظام «ري»، ولم تستطع حكومة شانج ميون Chang Myon التى تولت السلطة لفترة محدودة، القضاء على هاتين المشكلتين (الفساد والتضخم) وانتهى الأمر باعتلاء بارك ذى الخلفية العسكرية سدة الحكم فى مايو 1961، الذى تبنى مشروعه التنموى بالاعتماد على البيروقراطية.
وقد لوحظ أنه فى سياق بناء النخبة البيروقراطية تم إفساح الباب أمام الكوادر التى تلقت تعليمها داخل الولايات المتحدة، والذين تأثروا بأفكار الليبرالية الاقتصادية. كان ذلك واضحا فى حالة «مجلس التخطيط الاقتصادي» الذى تم تأسيسه فى يوليو 1961، والذى أشرف على وضع الخطط الخمسية للتنمية والإشراف على تنفيذها، ولذلك لم يكن مستغربا دفاع المجلس عن تحرير الاقتصاد الكوري. كما تمت إعادة توجيه النخبة الاقتصادية بما يتوافق مع أولويات تلك المرحلة وبناء نخبة اقتصادية جديدة حليفة للنظام، وتبنى سياسة صارمة تجاه رجال الصناعة الذين حققوا تراكما رأسماليا غير مشروع خلال مرحلة نظام «ري»، وتغريم بعضهم مبالغ مالية دفعت بعضهم إلى الإفلاس، وأعيد دمج من استطاع توفيق أوضاعه مع أولويات المرحلة الجديدة.
غير أن الدور القوى للبيروقراطية لم يكن على حساب الرئيس، فقد ظل بارك هو الفاعل الأول فى مواجهة باقى أعضاء المثلث، من خلال عدد من الآليات، فبالإضافة إلى سيطرته على القرار السياسي، استطاع أيضا السيطرة على القرار الاقتصادى من خلال ما عرف ب»اجتماع ترويج الصادرات» Export Promotion Meetingالذى كان يعقد شهريا برئاسة بارك نفسه، لمناقشة سياسات ترويج الصادرات (محور السياسة الاقتصادية لتلك المرحلة).
وهكذا، فقد تميزت هذه المرحلة بسيطرة الرئيس على القرار الاقتصادى بالتعاون مع البيروقراطية الاقتصادية، ممثلة فى مجلس التخطيط الاقتصادى ذى التوجهات الانفتاحية الليبرالية، فى مواجهة قطاع خاص صناعى صاعد موجه نحو التصدير، يركز بالأساس على الصناعات الخفيفة.
غير أن السمات السابقة للتحالف بدأت فى التغير مع بداية السبعينيات، بفعل عدد من العوامل الداخلية والخارجية؛ فقد أدى التوسع فى القروض الأجنبية لتمويل عملية التصنيع خلال عقد الستينيات إلى زيادة كبيرة فى الدين الخارجي، وثارت الشكوك حول قدرة الاقتصاد الكورى على الوفاء بهذه الديون، ما اضطر الحكومة إلى تقليل الاعتماد على التمويل الخارجي. وتبع ذلك ممارسة قطاع الصناعة الضغوط لإلغاء الديون والضرائب المستحقة عليه للحكومة. كما اتجه القطاع إلى تشكيل التنظيمات الخاصة به لإدارة هذه النوعية الجديدة من القضايا، مما اضطر الحكومة بالفعل فى أغسطس 1971 إلى تأجيل دفع هذه الديون.
وعلى المستوى الخارجى كانت الدول الصناعية (الأوروبية) قد بدأت فى فرض القيود الحمائية على الواردات من الاقتصادات الآسيوية الناشئة، الأمر الذى أثر سلبيا على فرص نفاذ الصادرات الكورية إلى تلك الأسواق. وفى الاتجاه ذاته، شهدت القدرات التنافسية للعمالة الكورية تراجعا نسبيا مع تصاعد القدرات التنافسية للعمال فى دول جنوب شرقى آسيا، الأمر الذى أدى إلى تراجع نسبى فى القدرات التنافسية للصادرات الكورية. كذلك، فقد أدى تخفيض الوجود العسكرى الأمريكى من جنوب شرقى آسيا عقب انتهاء الحرب الأمريكية فى فيتنام والانفتاح الأمريكى على الصين فى عهد الرئيس نيكسون، واستمرار تدهور الأوضاع الأمنية فى شبه الجزيرة الكورية، إلى تطور قناعة لدى الرئيس بارك بزيادة القدرات العسكرية الكورية وربطها بعملية التصنيع.
تبع هذه التطورات إعادة الرئيس بارك النظر فى سياسة التصنيع، فاتجه إلى التركيز على الصناعات الثقيلة والصناعات الكيماوية. واستهدفت السياسة الجديدة دعم الصناعات العسكرية، والسيطرة على قطاع الأعمال الصناعى الذى كان قد بدأ فى الصعود، فضلا عن تغيير هيكل الصادرات الكورية على نحو يساعد فى فتح أسواق جديدة.
وهكذا، بدأت ملامح جديدة للعلاقة بين القوى الثلاث فى التطور، وبدأ الرئيس بارك فى اتخاذ بعض الإجراءات لضمان إحكام سيطرته على السياسة الصناعية، والحفاظ على نفوذه فى مواجهة البيروقراطية الاقتصادية وقطاع الأعمال الصناعي؛ فقام فى شهر مايو 1973 بإنشاء «لجنة تعزيز الصناعات الثقيلة والكيماوية»، ثم إنشاء مجلس للتخطيط داخل هذه اللجنة رأسه السكرتير الاقتصادى الأول للرئيس، حيث أصبح هذا المجلس مركز عملية صنع القرار الاقتصادى خلال تلك المرحلة، ما سمح لبارك بالسيطرة على كامل عملية صنع القرار الاقتصادي.
ونتج عن سياسة تشجيع الصناعات الكيماوية والثقيلة تزايد الأهمية النسبية للمجموعات الصناعية الكبيرة المعروفة ب «الشيبول» chaebol، التى شهدت توسعا متسارعا خلال تلك الفترة. فقد زاد، على سبيل المثال، رأس مال «مجموعة دايو» من 18 ألف دولار فى سنة 1967 إلى 2 بليون دولار فى سنة 1979، كما زاد عدد العاملين بالمجموعة من 7 موظفين إلى 60 ألفا خلال الفترة نفسها. كما بدأت المجموعات الاقتصادية الكبيرة متعددة الجنسيات فى الظهور. ونجحت هذه السياسة فى إعادة تدفق الاستثمارات والقروض الأجنبية إلى قطاع الصناعة.
وهكذا، اتسمت هذه المرحلة باستمرار الدور القوى للرئيس فى مواجهة البيروقراطية وقطاع الصناعة، ومع استمرار دور البيروقراطية إلا أن تحولا حدث فى اتجاه تصاعد دور وزارة التجارة والصناعة على حساب مجلس التخطيط الاقتصادي، كما تصاعد دور المجموعات الصناعية الكبيرة التى استغلت تراجع دور مجلس التخطيط الاقتصادى لتطوير علاقات قوية مع الأجنحة المتنفذة داخل البيروقراطية.
وبدأت المرحلة الثالثة مع بداية الثمانينيات، واتسمت بالتوسع فى سياسات الليبرالية الاقتصادية والديمقراطية. وارتبط بدء هذه المرحلة بتطورين أساسيين، الأول ارتفاع معدل التضخم خلال السنوات الأخيرة من عقد السبعينيات، وعدم قدرة نظام بارك على معالجة هذه الظاهرة بسبب موقف وزارة التجارة والصناعة الرافض لسياسات كبح التضخم، والثانى هو صعود دور المجموعات الصناعية الكبيرة (الشيبول)، التى أصبحت ركيزة أساسية فى سياسة التصنيع والنمو الاقتصادي، على نحو أكسبها درجة كبيرة من النفوذ فى مواجهة البيروقراطية والنظام، خاصة فى ظل اعتماد الرئيس شون دو هوان، الذى وصل إلى السلطة فى أكتوبر 1979، على استمرار النمو الاقتصادى كأساس لشرعية نظامه، الأمر الذى عقد من قدرته على السيطرة على هذا القطاع. ومع ذلك، فقد حاول شون هوان اتخاذ بعض الإجراءات لإضعاف نفوذ هذه المجموعات من خلال إجبار بعضها على العمل فى صناعات معينة، مثل إجبار مجموعة «هيونداي» على التخصص فى إنتاج سيارات الركاب، ومجموعة «كيا» على التخصص فى سيارات نقل الركاب.
وبشكل عام، فقد دشنت هذه المرحلة، وما ارتبط بها توسع حجم ودور المجموعات الاقتصادية الكبيرة ونموا متسارعا فى حجم الطبقة الوسطي، إلى تسريع مماثل فى عملية التحول الديمقراطى والانفتاح السياسي، بدأت بتعديل الدستور فى أكتوبر 1980،وإلغاء العمل بالأحكام العرفية، وتخفيف القيود المفروضة على عمل الأحزاب السياسية، كما اتجهت المجموعات الاقتصادية الكبيرة إلى ترجمة نفوذها المالى والاقتصادى إلى نفوذ سياسي، عكسه اتجاه رئيس مجموعة هيونداى إلى تأسيس حزب سياسى (حزب الشعب المتحد United Peoples Party) الذى نجح فى الحصول على 31 مقعدا فى انتخابات سنة 1992.
العوامل المحفزة للدور التنموى للبيروقراطية الكورية
رغم أن الدور التنموى للبيروقراطية الكورية قد ارتبط كما سبق القول بتطور تجربة الدولة التنموية، إلا أن هذا الدور يعود أيضا إلى تضافر مجموعة أخرى من العوامل تتجاوز مفهوم وتجربة الدولة التنموية، يتعلق بعضها بسيطرة مسألة الإصلاح الإدارى على أجندة الحكومات الكورية، والشراكة القوية بين البيروقراطية ومؤسسات الفكر، بالإضافة إلى طبيعة الثقافة الكورية ذاتها.
1- سيطرة مسألة الإصلاح الإدارى على أجندة الحكومات الكورية المتعاقبة: كانت مسألة الإصلاح الإدارى حاضرة بشكل دائم عبر المراحل السياسية المختلفة، بدءا من أربعينيات القرن الماضى فى سياق مشروع بناء الدولة الكورية، كما أعيد طرحه فى الخمسينيات فى سياق مشروع إعادة تعمير كوريا بعد الحرب الكورية- الكورية، كما طرحت خلال عقدى الستينيات والسبعينيات فى سياق إستراتيجية التصنيع والدولة التنموية. ومع أهمية هذه المشروعات إلا أنها ظلت محكومة بفكرة «التنمية المدارة» أو «الدولة التنموية»، ما أدى فى الواقع إلى توسيع دور البيروقراطية. ولكن عملية الإصلاح الإدارى بدأت تأخذ أبعادا أخرى وتستند إلى فلسفات مختلفة منذ أواخر الثمانينيات، حيث ارتبطت بتوجهات إعادة النظر فى دور الحكومة والبيروقراطية، ودفع عملية التحول الديمقراطي، والاستجابة لمجموعة من التحديات الجديدة التى فرضت نفسها مثل الأزمة المالية الآسيوية.
وفى هذا السياق، حرص معظم الرؤساء الكوريين على طرح مشروعات للإصلاح الإدارى تحت مسميات مختلفة وتشكيل لجان متخصصة لتطبيق رؤياتهم الإصلاحية؛ فطرح الرئيس شون هوان فى سنة 1981 فكرة «حكومة السوق» market oriented government، كما ظلت فكرة «الحكومة الصغيرة» إحدى الأفكار الأساسية المسيطرة على أجندة الحكومات الكورية، كما ظلت فكرة «دمقرطة الإدارة العامة» إحدى الأفكار الرئيسية بدءا من سنة 1987. وفى سنة 1988 أسس الرئيس رو تاى وو «اللجنة الرئاسية للإصلاح الإداري»، والتى طرحت فكرة «حكومة أصغر وأكثر كفاءة تساهم فى تعزيز التحول الديمقراطي»، وذلك بالتوازى مع العمل على تخفيف القيود التنظيمية والتشريعية المفروضة على المجتمع المدنى والتوسع فى اللامركزية بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية وداخل البيروقراطية. غير أن نقطة التحول الأهم فى مسار عملية الإصلاح الإدارى حدثت مع الأزمة المالية الآسيوية، خاصة فى ظل مرحلة الرئيس «رو مون هيون» الذى ركز فى عملية الإصلاح الإدارى على تعميق اللامركزية، وإصلاح نظام الضرائب والتمويل، والقضاء على مظاهر السلطوية داخل البيروقراطية، والتوسع فى الحكومة الإلكترونية.
وظلت إحدى الميزات المهمة للجهاز الإدارى الكورى أن حجمه لم يمثل تحديا أو خطرا مهما، سواء فيما يتعلق بحجم العاملين بالجهاز، أو نسبة الجهاز الإدارى إلى حجم قوة العمل، أو نسبة الأجور الحكومية إلى الناتج المحلى الإجمالي، أو نسبة الإنفاق الحكومى إلى الناتج المحلى الإجمالي، إذ تظل تلك المعدلات من أقل المعدلات داخل منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية. هذه السمات لم تجعل مسألة تخفيض حجم الجهاز الإدارى مسألة حيوية على أجندة الحكومات الكورية، وهو ما أمكن معه الفصل بين هدفى زيادة كفاءة الحكومة والجهاز الإداري، من ناحية، وتخفيض حجم الجهاز الإدارى من ناحية أخري، بمعنى التركيز على الهدف الأول بصرف النظر عن تأثير ذلك على الهدف الثاني.
2- الشراكة بين البيروقراطية ومؤسسات الفكر: إحدى السمات الأساسية التى ميزت عمل البيروقراطية الكورية هى الشراكة القوية التى تطورت بينها وبين «مؤسسات الفكر» Think Tanks. وقد كان لهذه الشراكة دورها المهم فى عمل البيروقراطية من أكثر من زاوية، فمن ناحية أدت هذه الشراكة إلى تعميق الأسس والطبيعة العلمية لطريقة عمل البيروقراطية، وضمان ارتباطها بأهداف وخطط التنمية. وكان أبرز «مؤسسات الفكر» التى ارتبطت بعلاقات شراكة مع البيروقراطية «معهد التنمية الكوري»، الذى وفر العديد من البحوث الأكاديمية لمجلس التخطيط الاقتصادي، و»معهد كوريا للاقتصاديات الصناعية والتكنولوجيا» الذى عمل كجناح بحثى لوزارة التجارة والصناعة، و»معهد كوريا للتحليلات الدفاعية»، و»معهد كوريا للشئون الخارجية والأمن القومي».ولم يقتصر التفاعل بين الجانبين على هذا الشكل، فقد أخذ شكلا آخر هو انتقال عناصر من البيروقراطية للعمل داخل مؤسسات الفكر، والعكس.
3- العوامل الثقافية والقيمية: مع أهمية جميع العوامل الأخري، لا يمكن إغفال تأثير طبيعة القيم الثقافية التى حكمت عمل البيروقراطية الكورية. فقد أشارت العديد من الدراسات إلى ما اتسم به الجهاز الإدارى الكورى من انتشار قيم الابتكار والتنظيم،و»الميل نحو التغيير» أكثر من الميل إلى الحفاظ على الواقع القائم، والميل نحو الابتكار، و»التحرك وفق أجندة محددة»، و»النظرة إلى المستقبل» أكثر من التقيد بتجارب الماضي، والميل إلى «التفاؤل بشأن المستقبل»، و»المبادرة والمخاطرة»، و»النزعة إلى الإنجاز». وهنا لا يمكن إغفال تأثيرالثقافة الكونفوشيوسية فى هذا المجال، والتى كان لها تأثيراتها المهمة على أخلاقيات عمل البيروقراطية الكورية من أكثر من زاوية. تمثل التأثير الأول فى المساحة المهمة التى أعطتها الثقافة الكونفوشيوسية للأساس القانونى والأخلاقى للحكم والإدارة، خاصة قيمة التوافق العام، وذلك على العكس من الثقافة الغربية التى تؤكد على الأساس القانوني، التى يعتبر الدستور والقانون فيها حجر الأساس والزاوية فى الحكومات الديمقراطية وإدارة العلاقات الإنسانية. ويستند الموقف المتحفظ والمتشكك للكونفوشيوسية تجاه الأساس القانونى إلى أن القانون يشجع الأفراد على «المكر» و»الدهاء» (فوجود القانون يفرض فكرة التحايل على القانون)، كما يشجع على اللاأخلاقية (فقد يكون التصرف قانونيا ولكنه غير أخلاقي)، كما أن القانون غالبا ما يحدد ما لا يجب فعله، ولكنه نادرا ما يحدد ما يجب فعله. أضف إلى ذلك فإن القانون يعكس فى الغالب موازين القوة السائدة فى المجتمع، ومن ثم، فقد يميل إلى حماية مصالح فئات اجتماعية معينة على حساب مصالح فئات اجتماعية أخري. وتذهب الكونفوشيوسية إلى أنه كلما أفرط المجتمع فى الاعتماد على القانون، فقد قيمه الأساسية، وتقاليده المشتركة. وتذهب التعاليم الكونفوشيوسية إلى أن قيادة الناس استنادا إلى القانون، وردعهم من خلال العقوبات، تجعلهم أكثر «مكرا»، على عكس الاعتماد على الفضيلة وعلى القيم الأخلاقية التى تؤدى إلى وجود مواطن وموظف صالح.
ووفقا للكونفوشيوسية فإن «الموظف الجيد» هو موظف يحب التعليم والمعرفة، ويلتزم بالولاء للسلطة الحاكمة، وعدم القابلية للفساد المالى أو الإداري، واحترام الآخرين، واحترام الطقوس والأخلاق، والاقتداء بالمثل الأخلاقية، وهو شخص يحترم ويقدر الآباء وكبار السن، ويعنى بالتثقيف الذاتى والاطلاع على الأفكار الجديدة، وهو شخص يؤمن بقيم التسامح والثقة والأمانة والولاء والاعتدال ويطبق هذه القيم فى حياته العملية، وهو شخص يحب الخير ويحب الناس، شجاع فى مواجهة الحاكم الفاسد.
ويركز الأساس الأخلاقى للبيروقراطية على احترام المرؤوسين لرؤسائهم والولاء لهم، والتواصل بين الرؤساء والمرؤوسين، والعلاقة الجيدة مع المواطنين، والولاء للحاكم. وتحوى التعاليم الكونفوشيوسية فى هذا الإطار العديد من الإرشادات للموظف الجيد لتحقيق هذه المبادئ، فهو إذا نظر ينظر بوضوح، وإذا استمع يستمع بإصغاء، وإذا عبر يعبر بشكل ودي، وإذا عبر عن وجهة نظره احترم رغبات الآخرين، وإذا تحدث كان مخلصا، وإذا أدى مهمة ما أداها باحترام وتفان، وإذا غضب تجاوز الآثار السلبية لغضبه، وإذا حصل على ميزة أو مكسب أخذ فى اعتباره ما إذا كانت عادلة أو يستحقها. ورغم أن العديد من هذه المبادئ تؤكدها الإدارة الحديثة، إلا أن الثقافة الكونفوشيوسية تعطيها بعدا قيميا وثقافيا يتجاوز البعد القانونى والإداري.
ومن ناحية أخري، تحث الكونفوشيوسية على التعليم، وتربط بينه وبين القوة السياسية والحراك الاجتماعى داخل المجتمع فالتعليم بالنسبة لكونفوشيوس هو الأداة الرئيسية للقضاء على النظم الارستقراطية الوراثية،وهو الآلية الرئيسية للحراك الاجتماعى والسياسي.
دروس كورية مهمة لمصر
هناك تباين بالتأكيد بين الظروف المحلية والدولية التى بدأت فيها التجربة التنموية الكورية بالمقارنة بالظروف الحالية فى حالة مصر، الأمر الذى يجعل من الصعب استنساخ هذه التجربة التنموية. لكن استقراء الخبرة الكورية يكشف عن عدد من الدروس المهمة بالنسبة للحالة المصرية. ففى حدود ما تمت مناقشته أعلاه، يمكن تحديد أهم هذه الدروس فيما يلي:
أولها، يتعلق بالدور الخطير الذى يمكن أن يلعبه الجهاز الإدارى للدولة فى إنجاح أو تعطيل مشروع التنمية، فقد تمتلك القيادة السياسية للدولة رؤية واضحة لأولويات وخطط التنمية، لكن بدون تعاون واضح من جانب البيروقراطية فى تنفيذ هذا المشروع يصعب الحديث عن فرص نجاحه. وقبل ذلك لابد من فهم البيروقراطية لهذا المشروع، وأبعاده، وسياسات تنفيذه، فقد تتوفر لديها الرغبة فى تطبيقه، لكن لا تتوفر لديها بالضرورة القدرة على التطبيق الكفؤ.
ثانيها، لابد أن يكون هناك نمط محدد للعلاقة بين البيروقراطية والقيادة السياسية وقطاع الصناعة، ويجب تحديد نمط هذه العلاقة فى ضوء رؤية القيادة السياسية لطبيعة دور كل طرف فى إطار أولويات عملية التنمية، فتغول أى منهما على حساب الآخر خارج الصيغة المحددة من جانب القيادة السياسية قد يضر بعملية التنمية. وكما كشفت الخبرة الكورية، لا يوجد نمط جامد من العلاقة بين الأطراف الثلاثة، إذ يعتمد هذا النمط على طبيعة وأولويات مرحلة التنمية.
ثالثها، يتعلق بأهمية بناء حالة من الشراكة بين البيروقراطية و»مؤسسات الفكر» المعنية بعملية التنمية، إذ لابد من استناد صناعة إستراتيجية وسياسات التنمية إلى تلك المؤسسات، الأمر الذى يوجب تفعيل دور هذه المؤسسات، أو استحداث مؤسسات جديدة. وتأتى أهمية مثل هذه المؤسسات فى المرحلة الحالية من أنها يمكن أن تقوم بمراجعة الخبرات والنماذج التنموية التاريخية والقائمة بهدف تطويع نموذج تنموى يناسب الحالة المصرية.
رابعها، يتعلق بأهمية مسألة الإصلاح الإداري، والتى ظلت قضية محورية مع توالى الحكومات الكورية، وهى مسألة لا تحتاج إلى مزيد من التأكيد فى حالة مصر، خاصة فى ظل الحجم الكبير للجهاز الإداري، أو حجم الأجور والمرتبات وما فى حكمها كنسبة إلى حجم الإنفاق الحكومي.
وأخيرا، وفيما يتعلق بدور العامل الثقافي، فقد أكدت الكثير من الكتابات على دور الثقافة الكونفوشيوسية فى تطوير التجربة التنموية الكورية، وغيرها من الخبرات الآسيوية، على نحو قد يُفهم منه أن هذه التجارب هى بنت بيئاتها الثقافية فقط، وكأن الثقافتين الغربية، ثم الآسيوية، هما الثقافتين المنتجتان للتنمية، وما عداهما لا يتوافق وقضية التنمية. لكن هذا الاستنتاج غير دقيق، إذ تشير التجارب التنموية الناشئة فى جنوب أفريقيا وفى أمريكا اللاتينية إلى أن التنمية ليست حكرا على ثقافات بعينها دون الأخري.
لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.