كان الطريق إلي العاصمة التشادية طويلا, وبرغم قرب تشاد الجغرافي من مصر, كان علي أن أقطع آلاف الأميال إلي العاصمة الإثيوبية أديس أبابا وأمكث فيها يوما قبل أن أتوجه إليها برفقة وفد من أطباء العيون المصريين في إطار مشروع مكافحة العمي في تشاد. المشروع يأتي في إطار حملة ينظمها الصندوق المصري للتعاون مع إفريقيا في وزارة الخارجية بالتعاون مع اتحاد الأطباء العرب والبنك الإسلامي للتنمية وفقا لما تقول السفيرة فاطمة جلال الأمين العام للصندوق المصري للتعاون مع إفريقيا. كانت عواصف ترابية كثيفة قد عطلت الطيران إلي العاصمة التشادية لمدة أربعة أيام, حمدنا الله أن هدأت هذه العواصف الترابية عند وصولنا, ومثلها كانت قد هدأت عواصف أخري سياسية, تمثلت في حالة حرب وعداء بين تشاد والسودان الدولتين الجارتين اللتين تربطهما الكثير من الروابط والعلاقات, انعكست علي الأوضاع الداخلية في تشاد. كان أعضاء الوفد الطبي المصري عالي المستوي الذي توجه إلي تشاد أشبه ما يكونون في مهمة فدائية, فلا وقت عندهم يضيعونه, كان يومهم يبدأ بعد صلاة الفجر, ولا ينتهون من عملهم إلا في الثامنة أو التاسعة مساء, ويظلون في عمل متصل, يسابقون الزمن لأنهم وضعوا هدفا لهم, وهو إجراء1200 عملية خلال فترة وجودهم المحددة بعشرة أيام, فضلا عن المعاينات والكشف, ولم تكن هذه المرة الأولي لهم, فقد سبق أن قاموا بقافلة مماثلة قبل أشهر, لكن انضم أطباء جدد للقافلة هذه المرة. وكانت القافلة الطبية في غاية التنظيم فقد تم إعداد وتجهيز مكان ملائم لهم في أحد أكبر مستشفيات العاصمة التشادية, وهو مستشفي الحرية الذي قامت ببنائه الصين وإهدائه للشعب التشادي قبل سنوات, كما تم قبل وصولهم شحن المعدات والأجهزة والمستلزمات الطبية التي يحتاجونها, فضلا عن أطنان من الأدوية التي تقدم مجانا للمرضي التشاديين, إضافة إلي تعاون وثيق مع السفارة المصرية في تشاد ومع الجانب التشادي تمثل في تنظيم جيد للمرضي وإعلام واسع, وأيضا تعاون كبير مع الأطباء والممرضين والمساعدين التشاديين. يقول الدكتور خالد حنفي رئيس المركز العربي لمكافحة العمي باتحاد الأطباء العرب والمشرف علي البرنامج: إن القافلة تأتي في إطار خطة مدتها ثلاث سنوات لإجراء عشرة آلاف عملية وعلاج مائة ألف شخص وتأهيل وتدريب أطباء العيون في تشاد, مشيرا إلي وجود نحو مائة وعشرين ألف حالة عمي في تشاد. كانت طوابير المرضي تصطف أمام المستشفي يوميا, وقد اكتسب الأطباء المصريون سمعة جيدة في تشاد, وصاروا بحق خير عنوان ودعاية لمصر, وبعد قافلتهم الأولي قبل أشهر كان المرضي من كل أنحاء تشاد يسألون عنهم, وعن موعد قدومهم التالي كما ذكر لي السفير المصري في تشاد السفير جمال نبيه الديروطي, ويقول الدكتور مختار علي نمير أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإسكندرية الخبير المصري في تشاد حاليا: إن هؤلاء الأطباء قاموا بعمل عظيم وتركوا بصمة كبيرة برقيهم المهني والأخلاقي.. وقد قوبلت القافلة الطبية المصرية بترحاب كبير علي المستوي الرسمي, وأعربت مهدية عثمان عيسي وزيرة الدولة في وزارة الصحة التشادية, عن تقدير الدولة التشادية لهذا العمل الكبير الذي يقوم به الأطباء المصريون, مشيرة إلي حاجة تشاد الشديدة إلي مزيد من التعاون الصحي مع مصر, سواء فيما يتعلق بهذه القوافل أو بتدريب وتأهيل الكوادر الطبية التي تعاني تشاد نقصا حادا فيها حيث لا توجد بها كلية طب واحدة, ومثلها رحب محمد المستور نائب المدير العام للإعلام بالرئاسة التشادية بهذا العمل, معربا عن أمله في أن تشهد الأيام المقبلة مزيدا من التعاون بين تشاد ومصر وجميع الدول العربية في جميع المجالات, وقال علي عثمان قاسم منسق مشروعات البنك الإسلامي للتنمية في وزارة التخطيط التشادية: إن فكرة القافلة تدعم التعاون الإقليمي للعمل من أجل مكافحة العمي في تشاد. غير أن الترحيب الشعبي بالأطباء المصريين والدعوات لهم من أفواه البسطاء كانت هي المنظر الأكثر تأثيرا, وقد رافق الأهرام الأطباء في رحلة علاجهم للمرضي وأيضا إلي داخل غرفة العمليات, التي تم التقاط صور من داخلها نعرض بعضها هنا, ولا أعتقد أن هناك كلمات يمكن أن تصف مشاعر هؤلاء البسطاء من المرضي الذين أتوا من كل مكان في تشاد, بعد أن فقدوا البصر أعواما, وفقدوا معه الإحساس بالحياة والمشاركة الفاعلة فيها, ثم كان قدوم هذه القافلة الطبية المصرية بمثابة يد الرحمة الإلهية التي تنتشلهم من بحور الظلمات إلي نور الحياة والأمل وأيضا القدرة علي العمل والانتاج من جديد, وتدخل البهجة والسرور علي قلوبهم. هذه الحاجة عائشة التي جاءت إلي المستشفي تتوكأ علي يد ابنها ولم تغادره إلا مبصرة, كان وجهها يتهلل من الفرحة والذهول, لم تكن تتخيل أن يعود إليها بصرها ثانية.. كانت سنواتها الماضية في الظلام رحلة طويلة من المعاناة, أما الآن فقد عاد إليها نور الحياة, ومثلها الشاب إبراهيم الذي لن يكون بعد اليوم معاقا أو عالة علي أحد, بل سيصبح قوة منتجة في المجتمع, قال لي: إنه يتطلع إلي العودة للعمل والمساهمة في إعالة أسرته الكبيرة وأضاف سعيدا: ومن يدري فقد أتزوج قريبا وأبني أسرة صغيرة.. لكل مريض قصة.. وخلف كل قصة رحلة من المعاناة والعذاب والألم.. وكما للمرضي قصص فللاطباء هم الآخرون حكايات يجب أن تروي, فيها تضحية وتكبد للمشاق وبذل وعطاء, يقول الدكتور خالد حنفي رئيس المركز العربي لمكافحة العمي: إن فكرة المركز بدأت بعد أول قافلة لهم بدارفور عام2004, وأن خطتهم للعام الحالي هي إجراء عشرة آلاف عملية, مشيرا إلي قوافلهم الطبية المتعددة في أنحاء مصر والسودان والصومال وتشاد والنيجر ونيجيريا واليمن, ويقول الدكتور مصطفي الحسيني استشاري العيون المشارك في القافلة بتشاد: إن لا شيء يعادل لدي الطبيب البسمة التي يراها علي وجه إنسان عادت إليه نعمة البصر وأصبح يمشي وحده دون مساعدة. ويري الدكتور مصطفي الريس: أن الأطباء المصريين جاءوا إلي تشاد للتخفيف من معاناة إخوانهم انطلاقا من واجبهم الإنساني والأخلاقي, ويضيف الدكتور أحمد إسماعيل: إن كثيرا من الحالات يسهل علاجها, لكن تأخر ذلك بفعل الظروف الصعبة التي يعيشونها, أما الدكتور إيهاب أبوعلي, فيري أن هذا العمل هو رسالة وأن العمل الإغاثي له دوره في توطيد العلاقات بين الشعوب, حيث يتخطي كل الحواجز والتباينات بين البشر, ويعتبره الدكتور سعيد شوارب عملا ضروريا تجاه إخوتنا في الدول الإفريقية الذين يجب تعزيز علاقة مصر بهم. وإن كان هذا الترحاب الكبير بالوفد الطبي المصري لم يخفف ما يشعر به بعض التشاديين من لوم تجاه أشقائهم العرب, حيث يشعرون بأن العروبة والإسلام والجوار المشترك كان يجب أن تحرك الدول العربية نحوهم بشكل أكبر علي حد تعبير رئيس المجلس الأعلي للشئون الإسلامية في تشاد. منذ أول وهلة وطأت فيها قدماي العاصمة التشادية لم أشعر بغربة, وشعرت بأن تشاد كانت ولا تزال بحق أرض التلاقي العربي الإفريقي, وإحدي أقرب دول جوارنا لنا, وأنها تستحق عن جدارة أن تكون في قائمة الاهتمام المصري والعربي في المرحلة الراهنة لأسباب كثيرة, من بينها المصالح المشتركة التي يمكن أن تتحقق في هذا البلد الواعد ذي الموقع الجيوإستراتيجي المهم في قلب القارة الإفريقية, الزاخر بالثروات الزراعية والحيوانية وبالبترول والمعادن, والذي مازال في مراحل البناء, ولعل أكبر ما بعث السرور في نفسي, وقوبل بترحاب شديد في تشاد هو دعوة السيد عمرو موسي لإنشاء رابطة لدول الجوار العربي, وتأكيده في هذا الصدد علي تشاد, التي أكد أن70% من أهلها يتحدثون العربية.