أنا من جيل رضع قضية فلسطين ولم يفطم منها بعد, لكأنها طائرنا المعلق فوق رءوسنا من المهد إلي اللحد, جيل أرادوا أن يقنعوه باشتهاء الموت من أجل تراب فلسطين, وقضي العمر يقرأ ويستوعب ويبخر أحلي سنوات العمر في الخنادق, ويعطي آلاف الشهداء وآلافا غيرهم ممن عادوا من جبهات القتال أحياء ولكن مشوهين. أتي اليوم لمن يقول لهذا الجيل: لقد عشت عمرك كله تقرأ كتبا كاذبة, وأفكارا غير صحيحة, وتابعت ساسة خدعوك, وفلاسفة ضحكوا علي ذقنك وعقلك, وأفنيت عمرك في هراء, وها أنذا علي مشارف الشيخوخة تكتشف الحقيقة, وعليك أن تدرك أن تلك القضية لم تكن سوي نوع من المخدرات ولابد أن تعالج نفسك من الإدمان, فالمشكلة ليست اغتصاب أرض, ولا تشريد الملايين, ولا هي عنصرية الباغي, ولا هي منطق القوة, ولا هي من النيل للفرات أرضك يا إسرائيل, المشكلة في مرض الإدمان!! ما هو موقع ذلك الجيل( جيلي) الذي ولد علي مشارف نكبة48, واشتد عوده علي انتفاضة56, حتي انكسر بنكسة67, وبعدها قبع في الخنادق كي يحرز أول انتصار علي الهزيمة في حرب الاستنزاف, يعقبها بقفزة هائلة عبر بها حواجز كثيرة عام73, ثم تمر السنون علي تلك الوثبة الخاطفة الظافرة, ليتبين الجيل عبثية كل التواريخ السابقة, وبعد أن شهد أربعة حروب مع عدو, يكتشف فجأة أنه كان يستطيع منذ البداية أن يكتفي بالاعتراف بالأمر الواقع, وكفي الله المؤمنين القتال؟ هل كانت فلسطين علي الخريطة يوما؟ هل هناك شعب فلسطيني؟ هل كانت المسألة تستحق بالفعل هذا العناء؟ وكل هذا الغناء؟و كل هذا الفناء؟ أتذكر أن آلاف الخطب الحماسية, والأبواق النحاسية, ووثائق ممهورة بالدماء, ورقيب فصيلتي رضوان في لحظة الاستشهاد ينظر نحوي بعينيه العسليتين قريرا راضيا, كأنه يؤكد لي قبل رحلته النهائية أنه أوفي بالقسم الذي أقسمناه بأن نحرر كامل التراب الوطني, ونستعيد فلسطين, تري هل ستتذكر الأجيال المقبلة شيئا من ذلك؟ قد يذكرون فقط أن جيلا كاملا بسبب مصادفات تاريخية عجيبة عاش غبيا ومات أكثر غباء!! إن فلسطين وفقا لمنطق نتن يا هو لم تكن ضائعة أبدا, لأنها وفقا للمنطق نفسه لم تكن موجودة أبدا, إذ هي مجرد خيال رومانتيكي لجيل أدمن المراهقة السياسية, لم يتحل يوما بواقعية الحكماء والجهابذة, فلسطين مثل امرأة طاغية الجمال والفتنة لم توجد إلا في خيالاتنا, صرح كما خبلت ليلي قيسها, وعندما أفقنا متأخرين اكتشفنا أن من ترقد في فراشنا سيدة قبيحة واقعية, باركت زواجنا بها الكتب المقدسة, وتم زفافنا إليها في البيت الأبيض المعمور. لكن جيلنا الأحمق كان قد غادر ممر الخصوبة ولم يبق لديه سوي الإغراق في أحلام اليقظة, محلقا خلف فتنة صباه التي أسماها فلسطين. ما أصعب أن يقف المرء علي شفا شيخوخته كي يعتذر عما مضي من سنوات عمره, ويملأه الخجل, ويعتريه الأسي والندم كلما تذكر حماقاته وزلاته, لا يبقي لهذا الإنسان سوي أن يتواري, يقطع لسانه, يفقأ عينيه, يسكب علي ذاكرته حامض الكبريتيك, لكن كيف يمكن إخفاء كتلة زمنية بحجم جيل كامل؟؟ المزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق