ترك فهمي الشارع، لكنه لم يتخل عن الشقة التي تربي فيها، يذهب كل فترة، ويفتح شبابيكها وينفض الغبار، ويشغل إذاعة القرآن الكريم ويبخرها، وربما ينام ساعة أو ساعتين، قبل أن يذهب إلي المقهي ويقضي ليلة مع أصدقاء طفولته وصباه وما تبقي من أصدقاء والده النقابي - رحمة الله عليه - ، يركن سيارته في باب اللوق، ويخرم من شارع البلاقسة، بعد أن يكون اشتري ثلاث علب حلوي، واحدة للجارة التي فقدت بصرها بسبب خطأ طبي، وواحدة لقدري والثالثة لعمال المقهي،ويكون حريصا علي أن «يمسي» علي كل «الهوائيين» في الشارع، والذين تتهلل ملامحهم عند رؤيته، وينصتون إليه بفرح وهو يتحدث. هو مخرج سينما تسجيلية، اتجه للعمل في التليفزيون مخرجا ومعدا لبرامج الأطفال، وحصل علي عدة جوائز، طموح وموهوب ومسالم، ذهب إلي عابدين كما يفعل «مرة كل شهر أو شهرين» في أول أبريل 1993، وشم الرائحة التي كان يحتاجها، و«تمم» علي تفاصيله الصغيرة، وقبل أن ينصرف وجه الدعوة إلي قدري وحسين وسالم لحضور عيد ميلاده بعد أسبوع، وكتب لهم العنوان في شارع فاطمة رشدي بالهرم. قدري علي مشارف الستين من عمره، ممتلئ، حريص علي معرفة كل شيء في الشارع، ويسمسر في كل شيء، وعلي صلة وثيقة بالقسم والضباط والأمناء، ويلجأ الناس إليه عندما يكون بينهم وبين الحكومة مشاكل،وهو أيضا من «قبضايات» الحزب الوطني في المنطقة، لا تستطيع أن تكرهه، ولا تستطيع أيضا أن تأمن له، ولا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال. حسين كان صديقا مقربا لوالد فهمي، يمتلك محل «مكتبة وخردوات»، يجلس فيه بعد أن سوي معاشه،علي مشارف الستين، وسيم، حكاء ماهر، يجيد الغناء ويحفظ الكثير من التراث وهو من أصدقاء نجم وإمام، ومن رواد الكاب دور والمخزن وقبرص وهاليجيان، أما سالم فهو الصديق الحقيقي لفهمي في عابدين،وابن أيامه، وبينهما محبة صافية، ذهب كل واحد بمفرده، قدري لبس بدلة بيضاء ولمع نفسه، كان هناك قبل الجميع، الشقة ما شاء الله واسعة وبها زرع غزير، صالتها تسع عشرين شخصا يجلسون مستريحين، ويوجد طباخ وسفرجية استأجرهم صاحب الليلة لهذه المناسبة،حسين تجاهل قدري تماما، وانشغل بمتابعة التليفزيون، إلي أن بدأ الضيوف في التوافد، الذين يوجد بينهم ممثلون وممثلات وملحنون وأدباء وصحفيون، يعرف بعضهم حسين،أما قدري فقد انشغل بشرب البيرة والنظر إلي حسين بكراهية معلنة،وشيئا فشيئا «فكت» الليلة، وبدأ الغناء، وتجلي العم حسين وغني «الحبيب للهجر مايل» لسيد درويش و«قلبي حبك» لحن عبد العظيم عبد الحق، وانتبه الذين لا يعرفونه إلي قيمته وروحه ورقته، وبدأت بعض السيدات يحطن ويلتصقن به، وقدري يواصل «العب» وغير البيرة ودخل في المشروبات الساخنة المتنوعة المتاحة، وفي لحظة غائمة أمسك بالكلام وبدأ يحكي نوادره في الحياة والسياسة والنسوان، وكان حريصا علي عدم التوقف، والحضور غير مستمتعين بما يقول، ترك حسين المكان ودخل إلي غرفة هي المكتب وشيئا فشيئا تبعته الجميلات ثم معظم الحضور،ولم يتبق مع قدري الذي احمرت عيناه أكثر غير سالم وفهمي، واكتشف فجأة أنه كمن يكلم أشباحا، هب من مكانه، ودفع باب المكتب بقدمه، وانهال علي حسين بالشتائم، وعايره بأنه ضلل القسم أكثر من مرة حتي لا يقبضوا عليه، وبأنه شيوعي كافر وابن...، وحسين ينظر إليه كأنه يشاهد كائنا غريبا، وعندما تمادي قدري وقرر الاقتراب منه، قذفه حسين بفنجان قهوة كان في يده، وأغرق بدلته البيضاء، وضحك الجميع، فرد عليه بزجاجة فارغة تفاداها حسين، وكان ضروريا لكي يصل قدري إلي خصمه أن يصعد علي المكتب لكي يمسك به، وفلتت قدمه، وسقط علي الأرض، وحدثت بسبب جسده الضخم كسور متنوعة، في اليوم التالي ذهب حسين وفهمي وقدري وسالم إلي مستشفي أم المصريين، كانت ساق قدري اليمني في الجبس ومعلقة في الهواء، حسين أخذ معه «وردا» وضعه جنبه علي السرير وقال له « سأكون أول وآخر واحد في حياتك يجيب لك ورد... لأنك هاتفضل طول عمرك حمار»، ولأول مرة بانت علي ملامح قدري علامات طيبة... قديمة.