التاريخ.. قد يراوغ أحيانا بعض السادرين في غي طموحاتهم الهوجاء, بالرؤي المعتمة وضلالات التصور. وهذا ما أوقع برجل وابنته في محاولة حمقاء عندما حاولا الاستحواذ علي بطولة قومية وتاريخية لفتاة فرنسية هي جان دارك, ويصور لهما خيالهما الجامح أنهما امتداد لها, ويرتكبان بذلك اثما عظيما. وهذا ما يحدث في فرنسا منذ عام2791, ففي ذاك العام أسس جان ماري لوبن, وهو سياسي فرنسي يرفع راية اليمين المتطرف, حزب الجبهة الوطنية, وجعل من جان دارك رمزا لحزبه, وأقام تماثيل لها أمام المقار الرئيسية للحزب, وهي منه براء. ذلك أن هذا الحزب كان منذ انطلاقه ولايزال يستمد أفكاره وتوجهاته السياسية من النازية الألمانية, التي روج لها ادولف هتلر منذ هيمن علي السلطة في ألمانيا عام3391, وحتي انتحاره عام5491 إثر الهزيمة الساحقة في نهاية الحرب العالمية الثانية. والغريب أن مارين الابنة الأثيرة للسياسي المتطرف أطلقت علي إحدي بناتها اسم جان دارك حتي تكتمل خدعة الانتساب الي البطلة الفرنسية. وكانت جان دارك قد بدأت في نسج بطولتها عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها, فقد تصورت أن أصواتا نورانية تحثها علي الرحيل من قريتها الصغيرة والانضمام الي الجيش الفرنسي لتحرير بلادها من الاحتلال البريطاني الذي يعيث جنوده فسادا في البلاد منذ.7331 وتمكنت الفتاة من تحقيق ذلك الهدف الوطني, ولكنها, في نهاية المطاف, جري اتهامها بالشعوذة والسحر, وحكموا عليها بتهمة الهرطقة والزندقة, والسجن مدي الحياة. وعندما تمردت علي الحكم الجائر, قرروا إعدامها حرقا في ميدان عام سنة1341, ولم تكن قد تجاوزت التاسعة عشرة من عمرها. وقد أعادت فرنسا, عندما أفاقت من غفوتها وغفلتها, لجان دارك اعتبارها, وأشاد المفكرون والمؤرخون ببطولتها القومية, وكتب عنها الفيلسوف الفرنسي فولتير قصيدة عذراء أورليان عام5571, وتناول الأديب الألماني شيلر حياتها في مسرحية نشرها عام1081, وكذا كتب عنها مسرحية الكاتب البريطاني برنارد شو, والهمت جان دارك الموسيقار فيردي أوبرا غنائية عام.5481 هذا التقدير العظيم لجان دارك لم يمنع جان ماري لوبن من محاولة اختطافها وتحديد اقامتها في تماثيل أمام مقار حزبه, وقد تتضح أبعاد محاولة التطاول علي تاريخ جان دارك وبطولتها, اذا رصدنا, في إيجاز, الصعود السياسي لجان ماري لوبن وابنته مارين. وكان لوبن قد شق طريقه في غمار الحياة االسياسية الفرنسية بالوقوف في الخندق المعاكس لحركة التاريخ, فقد بدأ صاخبا ومشاكسا, وكان يخوض حرب الشوارع ضد القوي اليسارية عقب الحرب العالمية الثانية. وعندما تطوع عام6591 في الجيش الفرنسي الذي كان يحتل الجزائر, كان يمارس تعذيب المناضلين الجزائريين. والمثير للدهشة أنه ما ان عاد الي فرنسا حتي تمكن من الفوز بمقعد في البرلمان الفرنسي, وكان لايزال في الثامنة والعشرين من عمره, غير أنه فقد المقعد البرلماني في انتخابات2691, وأمضي سنوات يصول ويجول خارج المؤسسة السياسية الفرنسية. وما إن أتي عام2791, حتي استطاع تأسيس حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف, ويشير الكاتب الصحفي الأمريكي سكوت سوليفان في دراسة نشرها في ابريل8891, الي أن الرسالة السياسية لهذا الحزب تماثل تماما رسالة النازية, فهي تناهض الأجانب والمهاجرين وتعتبرهم غزاة للبلاد! ولذلك, لم يكن مثيرا للدهشة أن تقول مارين لوبن في ديسمبر0102, إن المسلمين عندما يحتشدون للصلاة داخل المساجد وخارجها يذكرونها بالاحتلال النازي لفرنسا!! وهنا, قد يمكن الإشارة, الي أن تأسيس حزب الجبهة الوطنية اقترن بما اصطلح علي تسميته بالصدمة الاقتصادية الأولي التي حلت بفرنسا ودول أوروبا منذ3791, نتيجة ارتفاع أسعار البترول, عقب حرب اكتوبر المجيدة, ومن ثم تفشت البطالة, وهو ما أدي الي كراهية الأجانب والمهاجرين والمسلمين الوافدين من دول شمال إفريقيا, وصور رجال السياسة من أهل اليمين أن هؤلاء يحصلون علي فرص العمل علي نحو يضيق الخناق علي الفرنسيين. ولعل ذلك ما حدا بسكوت سوليفان الي القول إن عقد الثمانينيات من القرن العشرين شهد صعود جماعات وأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا, خاصة في فرنساوألمانيا وايطاليا, ويشير الي ظهور نفر من المثقفين الفرنسيين ارتبطوا ايديولوجيا بحركة اليمين الجديد, واضطلعوا باصطناع الأسس النظرية للفاشية الجديدة, وكذا النازية الجديدة. هذا اليمين الجديد قد تناوله البروفسير مايكل هاريس في فصل مهم ضمن كتاب التفكير السياسي الجديد, الذي صدرت طبعته الأولي في بريطانيا عام.8991 وثمة واقعة مهمة تشير الي انتماء جان ماري لوبن الي النازية, وهي واقعة كشف عنها سكوت سوليفان عندما أوضح أن لوبن عمل في التجارة فترة من حياته, وأسس شركة صغيرة كان يبيع فيها شرائط تسجيلات خطب هتلر والأناشيد النازية, وليس أدل علي هذا الانتماء النازي من انكاره لمحرقة اليهود الهولوكوست إبان حكم هتلر, فقد قال في هذا الصدد انها مجرد تفاصيل صغيرة. وقد أحدث جان ماري لوبن صدمة سياسية روعت فرنسا في انتخابات الرئاسة عام2002, فقد تقدم في الجولة الأولي علي المرشح الاشتراكي وأقصاه من سباق الرئاسة, وتنافس في الجولة الثانية مع المرشح اليميني جاك شيراك, غير أن شيراك فاز بالرئاسة. وعندما تقدم العمر بجان ماري لوبن(28 عاما) نصب ابنته مارين زعيمة لحزب الجبهة الوطنية في يناير1102, وخاضت انتخابات الرئاسة في العام الحالي2102, وتمكنت من احراز تقدم في الجولة الأولي, واحتلت المكانة الثالثة بعد المرشح الاشتراكي فرانسوا هولاند والمرشح اليميني ساركوزي الرئيس المنتهية ولايته. وبهذا التقدم المثير للانتباه في أول انتخابات رئاسية تخوضها مارين, فإنها من المرجح أن تحاول احكام قبضتها علي جان دارك, التي جعل منها والدها, قسرا وقهرا, رمز لحزبه. ولكن مارين ليست بطلة قومية, ولن تكون. وهي لن تعدو كونها مجرد هامش في دفتر اليمين المتطرف بكل أصوله التاريخية النازية والفاشية سيئة السمعة.