"الانهيار الكامل"، هذه هي الصورة التي رسمها وتوقعها عدد من قادة أوروبا أنفسهم لمستقبل الاتحاد الأوروبى على المدى المنظور، في ظل الخلافات التي تعصف بدوله ال 28 خصوصا خلال الفترة العصيبة الحالية التي تمر بها القارة العجوز. فخلال2015 فقط، شهدت بروكسل العشرات من اجتماعات الأزمة لقادة ووزراء ومسئولى الكتلة الموحدة، وأمامهم ملفات مفتوحة وخلافات لا تنتهي بأى اتفاق:أزمات اللاجئين، والإرهاب، والإتفاق على سياسة موحدة تجاه التدخل العسكري في دول مثل سوريا وليبيا، وأخيرا وليس آخرا قضية خروج بريطانيا بإستفتاء شعبي من الكتلة. وبدأت هذه التحذيرات تظهر بشكل واضح في خطابات المسئولين الأوروبيين، فالأسس التي قام عليها تكتل العالم الحر على وشك الانهيار. وفي سبتمبر الماضي، أطلق دونالد توسك رئيس البرلمان الأوروبي التحذير من الانهيار، في وقت يواجه فيه الاتحاد الأوروبي "منعطفا حاسما"، لم تصل فيه أزمة اللاجئين بعد إلى ذروتها، وأرجع أسباب هذه الصورة القاتمة للمستقبل بسبب سوء الفهم وتبادل الاتهامات بين الدول الأعضاء. ولعل مصطلحات مثل "أوروبا الشرقية"، و"أوروبا الغربية"، و"الدول الفقيرة" و"الدول الغنية"، أصبحت أكثر دويا عن ذي قبل، مع تفاقم أزمة اللاجئين، وبدأت كل دولة تتحدث عن سيادتها في وجه الاتفاقات المشتركة التي قام عليها كيان الاتحاد مثل "لشبونة"، و"روما"، واتفاق شينجن، وتحولت حدود كل دولة إلى خط أحمر وليس إلى فضاء مفتوح كما كانت طوال أكثر من 23 عاما، هي العمر الرسمى للاتحاد الأوروبي منذ توقيع معاهدة ماسترخت في 1992، وأكثر من 70 عاما منذ بدايات حلم الاندماج والتكامل الأوروبي. وإلى جانب الهجرة، شكل ظهور تنظيم "داعش" الإرهابي، والهجمات الإرهابية التي تهدد أو حتى ضربت بعض الدول الأعضاء ،تحديا آخر أمام الوحدة الأوروبية، ففرنسا وحدها شهدت هجومين كبيرين خلال العام الحالي سواء الهجوم على مجلة "شارلي إبدو" في يناير الماضي، أو هجمات باريس في 13 نوفمبر الماضي، مما جعل فرنسا تطالب بتعديل معاهدة لشبونة للدفاع المشترك، بالإضافة إلى قيام كل دولة مثل بريطانياوفرنسا بالقيام بعمل عسكرى منفرد، بعد تصويت البرلمانات المحلية في البلدين، ضد أهداف ترى أنها تشكل تهديدا لأمنها في عدد من دول العالم، خصوصا في سوريا وليبيا والعراق. وكما تشكل الهجرة والإرهاب تحديين هائلين أمام أوروبا، فأن تهديد بريطانيا بالخروج يشكل الوجه الآخر للعملة، فديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني يبحث عن "صفقة جيدة" و"امتيازات هائلة" من خلال إعادة تفاوضه مع الأوروبيين، قبل الاستفتاء الشعبي على عضوية بلاده في التكتل، والمقرر عقده في منتصف 2016. ومثلما يحدث على المستوى الأوروبى من شد وجذب حول الكثير من القضايا التى تنتهى بلا حل، فإن خروج بريطانيا أثار حالة من الجدال بين البريطانيين أنفسهم على حسابات المكسب والخسارة ، على الرغم من أن استطلاعات الرأى، التي تفشل توقعاتها في كثير من الأحيان، ترجح التصويت بنعم على الخروج خصوصا أن هذا الاستفتاء كان جزءا من برنامج حكومة المحافظين الانتخابي. أوروبا تتحسب للخسائر من وراء الموافقة على طلبات بريطانيا المتمثلة في منحها استثناء من تنفيذ القواعد المعمول بها في أوروبا، وحظر مزايا الرعاية الاجتماعية في العمل لمهاجري الاتحاد الأوروبي لمدة أربع سنوات وإعفاء لندن من أي تكامل أوثق للاتحاد ومنح سلطات أكبر لحكومات الدول لوقف قوانين الاتحاد، وتعزيز التنافسية بين الدول الأوروبية. 24 دولة تعارض مطالب لندن مقابل ايطاليا وأيرلندا وفنلندا، التى دعمت المطالب البريطانية. وسيكون فبراير القادم محكا أمام استقلال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، فهى المهلة التي منحها الأوروبيون لأنفسهم للنظر في طلبات لندن، والجلوس حول الموائد المستديرة للتفاوض، والنتيجة معروفة سلفا في ظل التعنت الألماني ورفض باقي الدول لأى إصلاحات. إيطاليا، تعتبر الدولة الكبرى الوحيدة فى الكتلة، التي ضمت صوتها لبريطانيا في ضرورة وجود حزمة لإصلاح الاتحاد الأوروبي ومسارات مختلفة للإندماج تتعامل مع موضوعات مثل دور البرلمانات الوطنية والقدرة التنافسية والإدارة الاقتصادية والرفاهية لجعل الاتحاد الأوروبى أكثر بساطة وأكثر فعالية وأقل بيروقراطية. وتضع بريطانيا للبقاء شروطا، يبحثها الأوروبيون، والكلمة تكون للكبار الذين يغضون الطرف ويصمون آذانهم عن مشاكل كل دولة على حدة، فالمهم قوانين وأسس الإتحاد، وأن يظل "قوة عظمى" كما أراد له الآباء المؤسسون أن يكون للخروج من أجواء الحربين العالميتين الأولى والثانية، وللوقوف في وجه العالم الجديد وقتها في ظل انهيارات الامبراطورية البريطاني القديمة، وصعود أمريكا على عرش العالم. المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتي تحكم أوروبا بقبضة حديدية ولها الكلمة العليا في القضايا الشائكة، ترى أنه لا نقاش على قواعد الاتحاد. ألمانيا ودول أوروبا الأخرى من ورائها ترفض التغيير والإصلاح، على الرغم من الهزات التي يمكن أن تضرب الإتحاد الأوروبي في ظل القضايا المفتوحة والممتدة على المدى الطويل مثل الهجرة والإرهاب، وأمام دول ثائرة تطالب بالاصلاح، منها بريطانياوإيطاليا واليونان. وربما الأسلاك الشائكة التي تقيمها الدول الأوروبية على حدودها منعا لدخول اللاجئين، تمثل رمزا لرغبة الدول الكبيرة والصغيرة، الشرقيةوالغربية، في الحفاظ على مصالحها وسيادتها خلافا للاتفاقيات والمعاهدات الأوروبية. وفي ظل تهديدات بريطانيا بالخروج، فأن سيناريوهات نظرية الدومينو تهدد الكتلة التي كانت تحلم يوما بالتربع على عرش العالم.