تعد المليونيات وتعدد المنصات علي الرغم الهتاف إيد واحدة وغياب الرضا العام عن قرارات أي من الأطراف الفاعلة علي الساحة أبلغ تعبير عن عجزها عن ملء الفراغ منذ إسقاط النظام السابق, وعن ضعف قدرة كل طرف منها علي حشد الرأي العام خارج جمهوره معه, فكل طرف انشغل إما بحساباته الخاصة أو بحسابات تعويضية عن الماضي أو بالسلطة, وبات السؤال: تغيير النظام السياسي إلي ماذا؟.. بلا إجابة حتي الآن. وتجلي هذا العجز وذاك الانشغال في مظاهر عديدة, منها عدم نجاح الأغلبية في تمرير تصورها لتشكيل اللجنة التأسيسية لكتابة دستور جديد, علي الرغم كونها أغلبية, واستمرار مسلسل إرهاب القضاء وصولا إلي التعامل بعدم مسئولية مع مصالح إستراتيجية وفي ملفات إقليمية ودولية, وقبل ذلك في القبول بمحاكمة الرئيس السابق عن جرائم اقترفها نظامه بعد25 يناير2011, وفي توفير الفرصة لبعض بقايا النظام السابق لإعادة إنتاج نفسه وما صاحب ذلك من ممارسات تمت بصلة نسب ومصاهرة مع النظام السابق كالرهان علي الفرعون المنتظر, وكذلك في علاج الأخطاء متأخرا بتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية, مايسمي ب( العزل السياسي) بعد ثلاثة عشر شهرا من الثورة, مما سهل الطعن عليه, لأنه جاء من شرعية البرلمان ولم يخرج من الميدان, فضلا عن أنه لم يشمل من عقدوا الصفقات سرا وجهرا مع نظام فاسد, ومن دون أن يحاسب أحد نفسه عن مسئوليته في توفير الأجواء المناسبة لإعادة بعض رموز هذا النظام إنتاج نفسه, بل ولطرح نفسه كمناضل ضد نظامه! هذا فضلا علي الخلط بين مطالب الثورة وأهدافها والتأخر في طرح معايير ورؤي شاملة لتحقيقها, وعلي رأسها العدالة الاجتماعية, وفي إجراء مراجعة سريعة لجميع القوانين التي أفسدت حياة المصريين, فظلت المطالب والاحتجاجات والاعتصامات الفئوية تتصاعد, وظلت أهداف الثورة عارية, وتسلل الإحباط إلي حياة الناس. فالبطء في الاستجابة لمطالب الشعب يبدو أنه لم يكن من سمات نظام مبارك فقط. بعد11 فبراير اختلف الهدف النهائي بين القوي الفاعلة علي الساحة وبات الهدف إنشاء دولة مدنية حديثة تائها, ففريق اعتبر قضاء الثورة علي مشروع توريث الرئيس السابق الحكم لنجله هدفا نهائيا, وثان اعتبر انتصار الثورة لجناح في الحكم علي جناح آخر هدفا نهائيا, وثالث اعتبر توفير الثورة الفرصة التاريخية له للوصول إلي السلطة هدفا نهائيا, ورابع اختزل الثورة في محاسبة بعض الفاسدين, وخامس اعتبر إطلاق قناة فضائية هدفا نهائيا, فبدا وكأن جميع الأطراف اتفقت علي ترميم النظام السابق وليس إسقاطه؟! أوضاع البلد تحتاج من القوي السياسية إلي وقفة مع النفس قبل الوقفة مع الصديق العسكري, فهي أسلمت نفسها لفكرة أن الشعب يطلب والجيش يلبي منذ انحيازه للثورة وحسمه الموقف في أسرع وقت(18 يوما) بوصفه مطالبها, في البيان الأول قبل التنحي, بأنها مشروعة وإجبار قائده الأعلي في سابقة تاريخية علي الرحيل. في الخامس من يونيو1967 أصاب جيل الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي الإحباط عندما تلقي مشروع الدولة الوطنية ضربة عنيفة كشفت ثغرات في المشروع بعد سنوات من خطاب سياسي وإعلامي رفع سقف الطموحات والتوقعات إلي عنان السماء. وبعد انتصار أكتوبر1973 تلقي صدمة أعنف عندما رأي أن مالم تستطع إسرائيل والولايات المتحدةالأمريكية تحقيقه في1967 يتحقق بعد الانتصار.. بإلحاق الهزيمة بالعلم لصالح الجهل, وبالعدالة لصالح الظلم, وبالحريات لصالح القهر, وبالإنتاج لصالح الاستهلاك وبتفكيك الدولة وبيع أصولها. وبينما كان الخروج من الإحباط في الحالة الأولي باعتراف القيادة بالأخطاء التي ارتكبتها, وبتجديد الثقة فيها مؤقتا سحبا من رصيدها حتي إزالة أثار العدوان, كان الخروج في الحالة الثانية بثورة شعبية أطاحت بالرئيس السابق بعد سنوات من اغتيال سلفه. والآن يتسلل الإحباط إلي جيل ثورة25 يناير وهم يتابعون الثورة, وهي تتحول إلي غنيمة, وأبناءها يطاردون في كل موقع ومؤسسة, وشيوخهم مشغولين بخلافات حول كتابة دستور لمستقبل لن يعيشوه, وسقف الطموحات والتوقعات من الثورة ينخفض يوما بعد يوم, والمال السياسي يعود من الشبابيك للعب نفس أدواره القديمة بأشكال مختلفة.. وكأن جيل25 يناير تعرض لأكبر عملية نصب في تاريخ الثورات. لقد بعث شباب25 يناير رسالة للجميع بشأن المستقبل, مفادها أن الانتماء للوطن وليس لعائلة أو لحزب أو لجماعة, وأن أجهزة الدولة ومؤسساتها ليست عزبة, وممتلكات الشعب ليست بستان الحاكم, والقوة ليست قانونا, والدين ليس وسيلة للسيطرة وآياته ليست تبريرا للخنوع.. ومن دون التعامل مع نص وروح الرسالة ستظل الثورة ناقصة إكتفت بتغيير وجوه. الجميع علي المحك لإجراء حوار وطني لوضع دستور جديد للبلاد وللانتقال إلي حكم مدني عبر انتخابات حرة ونزيهة كخطوة أولي نحو بناء الدولة الوطنية المدنية الحديثة, فمن المستحيل ضمان حياة ديمقراطية سليمة وهناك حالة قلق وتربص تعرقل تحقيق أهداف الثورة وتوفر المناخ لفوضي ناجمة عن الإحباط. فالأزمات التي تعيشها البلاد حول الدستور, وتشكيل اللجنة التأسيسة عطفا علي قرارات لجنة الانتخابات الرئاسية, وعلي شعار يسقط حكم العسكر الذي خفت حدته بعد أن رددته أطراف من التيارات الاسلامية يطرح التساؤلات حول ما إذا كانت العملية السياسية برمتها منذ تنحي الرئيس السابق يشوبها البطلان؟!.. ومجرد سباق مع الزمن بين أنصار الثورة والمتأملين في إجهاضها تورط فيه لصالح أعداء الثورة بعض ممن ينتسبون إليها بحسن نية؟. قبل ثورة يوليو1952 كانت السلطة تائهة.. فالملك كان غارقا في مشاكله العائلية, وحزب الأغلبية( الوفد) فقد بريقه بعد سلسلة من الانشقاقات, والقوي السياسية الاخري انشغلت بالصراعات الداخلية, وجاء الضباط الأحرار والتقطوها. وبعد أكثر من عام علي رحيل مبارك تذهل الأوضاع المصريين أنفسهم بأكثر مما أذهلت ثورة25 يناير العالم. المستقبل لمن يبني دولته ويقرر وليس لمن يتعامل مع الأمر الواقع وينتظر ما ستفرضه الظروف. كلمة عن الأهرام خلال أحد اللقاءات مع أستاذنا الراحل الدكتور يونان لبيب رزق عام2002 وكان محورها الحديث حول أوضاع الصحافة في مصر سألني: هل كل زميل في الأهرام يعرف لماذا استمرت الاهرام كل هذه السنوات؟.. وأجاب هو وأنقل عنه من الذاكرة. الأهرام واحدة من الصحف العريقة والفريدة في العالم(137 عاما الآن), التي عاشت هذه السنوات وعبرت من خلالها القرنين التاسع عشر والعشرين إلي القرن الحادي والعشرين( وستظل إلي ما شاء الله), وعايشت علي مدي عمرها سلاطين وملوكا وخديويين ورؤساء جمهوريات وفترات احتلال أجنبي واستقلال وطني, كما عايشت الثورات الثلاث الكبري في تاريخ مصر الحديث1882 و1919 و1952( وأخيرا الثورة الرابعة ثورة25 يناير2011). خلال هذه الفترة صمدت مؤسسات بالدولة كالأزهر والدواوين واختفت مؤسسات أخري وبقيت الأهرام حتي بات ينظر إليها كمؤسسة من مؤسسات الدولة التاريخية. وخلال هذه الفترة كانت التقلبات السياسية كفيلة أيضا باختفاء صحف وبقيت الأهرام لأنها إتخذت نهجا لها هو أن تكون منبرا لكل المصريين علي اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية والدينية والطائفية والعرقية, فاستحقت أن يطلق عليها صحيفة الشعب, وعنوان ديوان الحياة الذي أطلقه عليها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين, فرحابة الأهرام كانت وستظل أهم أسباب العمر الطويل. فقد أرست الأهرام تقاليد لمؤسسة تحمل تاريخها علي كتفيها وفي مقدمتها أن تحافظ علي بقائها, بعيدا عن الإثارة ومعبرة عن العصر الذي تعيشه, قابلة للتطور والتجديد وتجدد الدماء في عروقها الذي لم يجعلها عرضة للتسييس أو التصلب, ومنبرا لكل المصريين.. وهذا الأمر قد لايلقي هوي في نفوس البعض, وبسببه واستغلالا لمصداقية الأهرام وتأثيرها تعرضت الأهرام في لحظة فارقة إلي محاولة اختطاف لصالح مشروع التوريث كما تتعرض حاليا لانتقادات من هذا التيار أو ذاك.. ولمحالات للنيل منها كمؤسسة ظنا أنها ممر سهل لباقي المؤسسات. واجهت الأهرام عبر تاريخها ظروفا مماثلة بسبب التزامها الحياد والموضوعية والمهنية, فقد أصدر كل من الزعيم الوطني أحمد عرابي والخديوي توفيق قرارا بتعطيلها, الأول لمدة شهر في أول يونيو1882 بسبب نشرها منشور السلطان العثماني بعصيانه, والثاني لمدة شهرين بسبب مقال بشارة تقلا الذي اتهم فيه السلطة في البلاد بخدمة مصالح بريطانيا وليس مصالح مصر, فجاء قرارا التعطيل من الطرفين دليلا علي حيادها الذي لايرضي البعض هنا وهناك. في نهاية اللقاء كرر الدكتور يونان سؤاله, وأجبت: نعم.. وقارئ الأهرام أيضا يعرف ذلك. المزيد من مقالات محمد عبد الهادى