وتفجرت ثورة الغضب ثورة الشعب فى أرض مصر، أرض الكنانة، أرض العروبة ومهد الحرية والقومية العربية التى قهرهاالنظام الدكتاتوري الذي حكمها بقبضة حديدية طيلة ثلاثة عقود، غيب خلالها دورها النضالى البطولي والتحرري والعروبي التاريخي الذى قادته منذ أن تفجرت ثورة(19) بقيادة أحمد عرابي ثم ماتلاها من ثورة (23) يوليوفى العام (1952م) التى قادها محمد نجيب وجمال عبد الناصرومجموعة الضباط الأحرار، ثم انتصارات حرب أكتوبرفى العام (1973م) التى إستعادت فيها مصرهيبتها ومكانتها وأراضيها المحتلة، ولكن منذ تسلط هذا النظام الدكتاتورى فى العام (81م) وحتى سقوطه، كانت مصر تعاني وتشهد التشويه والتراجع لكل مؤسساتها وإنجازاتها الحضارية ومواقفها القومية والريادية والقيادية فى العالم العربي، على حساب مجموعة طبقية مستبدة تمكنت خلال تلك الحقبة التاريخية المظلمة من حكمها أن ترتهن البلاد والعباد، وأن تستولى على كل مقدرات وموارد الشعب، فسخرت بذلك كل الإمكانات والإنجازات لصالح توجهاتها الدونية الفردية وخدمة مصالحها الذاتية الخاصة، فعزلت الشعب وعطلت حركته وشلت قدرته على العمل والبحث، وصادرت حريته، فأوغلت فى قبضتها الحديدية بقوانين سلطوية بوليسية، وأهمها قانون الطوارئ، الذى كبل المواطنين بقيوده وإجراءاته الظالمة والمجحفة، فأودع الشباب السجون والمعتقلات من أجل تحطيم معنوياته وكسرإرادته وإحباط آماله وأحلامه وقتل ووئد روح الأمل والعمل والإبداع والطموح نحوالتطلع للمستقبل المشرق، لتزرع فيه الخوف والفزع وبث روح اليأس والتخاذل والإحباط فى كل مايمس صحوته ووعيه ونهضته وتنميته وتقدمه، لتجعل من شبابه شريحة معطلة من المعوقين والعاطلين والمحرومين والفقراء والمنكوبين، حتى عمت وطالت دوائرالفقروالبؤس، شرائح كبيرة من المجتمع الذى أصبحت فيه فئات كثيرة منه نتيجة لذلك، تمتهن الشحاته أوتعيش عالة على الغيرمما تحصل عليه من التبرعات والصدقات والجمعيات، فيما صارت فئات أخرى منه تبحث عن الطعام فى براميل النفايات وصناديق الزبالة، كما كانت تنشرالكثيرمن صحف المعارضة المصرية مثل هذه الأخباروالتقاريرالمأساوية المصورة والمخجلة..! وهكذا أنتشرت شبكات التزويروالفساد التى أخذت تنشرالرعب والخوف والفزع فى نفوس الناس، وساد الظلم والإضطهاد بمعظم طبقات وشرائح المجتمع الذى أهدرت حقوقه وضيعت ثرواته ومكتسباته لصالح النظام وتلك الشبكات الفاسدة، ورغم ذلك فلم تكتفي شلل الفساد بسرقتها ونهبها لمقدرات الشعب وما قامت به بموجب القوانين الظالمة التى تفرضها بحكم سيطرتها ونفوذها وسلطتها، فاستطاعت أن تستولي على الكثيرمن المؤسسات المهنية التى وضعتها تحت حراستها، بهدف نهبها وسرقتها ومصادرة حقوقها وشل أنشطتها وخدماتها عن العمل، وهوالأمرالذى أدى بالتالى لتعطيل ووقف مئات بل آلاف من المشروعات والمصانع عن إنتاجها فى مجالات وميادين صناعية مختلفة، كان يمكن أن تضع مكانة مصرفى مقدمة الدول الصناعية المنتجة. وبذلك قد أطرت وكرست هذه البرامج والخطط الجهنمية أهدافا أدت بالمجتمع فى عمومه إلى مجتمعا معطلا ومشلولا فى إرادته وحركته، رغم تصاعد وتزايد حدة التوترات والإحتجاجات والأصوات والمواقف المعارضة والمستمرة لهذه السياسة الهوجاء، سواء من عامة أفراد الشعب الذي ضاق ذرعا بهذه السياسة الإستبدادية، أومن قبل الكثيرمن جبهات وقنوات العمل الوطني المعارضة، والتى كثيرا ماتعرض أصحابها أيضا للإختطاف أوإدخالهم زنازين المعتقلات. وهذا اذاما أضفنا لهذه الأوضاع الداخلية، مواقف التخاذل والتراجع على صعيد ومستوى سياسة الدولة العام، والتى تخلى فيها النظام عن ثوابت الأمة المصرية الداعمة للقضايا والمواقف العربية والقومية، التى كانت فيها مصرهي الحاضنة السباقة والراعية لهذه المواقف الريادية، فى مجابهة الأخطارالمحدقة بالأمة العربية، فكان الوضع العام لمجمل هذه الإنتكاسات والتداعيات ونتيجة لهذه التحولات، هوأن تخلت مصرعن دورها العربي القومي القيادي، حتى أفل نجمها وانحسرمجدها وتراجعت مكانتها الريادية والقيادية العربية سياسيا وأجتماعيا واقتصاديا وصناعيا وثقافيا وفنيا، بعد أن انتشرت فيها بؤرالفساد وأوكارالجريمة والإنحراف ووسائط وأدوات الرشوة والمحسوبيات والسرقات، وتكاثرالفرق الشللية الفاسدة المقربة من النظام ورموزه، الذين إحتكروا ونهبوا الثروات واستغلوا الفقراء والكادحين وامتصواعرقهم ودمائهم، فى إنتهاكات صارخة للقيم الإسلامية وآدمية وحقوق الإنسان والقوانين البشرية لاحترام المشاعروالقيم الإنسانية النبيلة، كما ولم تكن قنوات الأنظمة الأخرى للبلاد فى منئ أوبعيدة عن هذه التداعيات فى تهميشها، كماهوالشأن السياسي والإقتصادي والحقوقي فحسب، وإنما عم وطال ذلك كل مؤسسات المجتمع المدني، فأصبحت أزمات الفوضى والعشوائية تعم وتنتشرفى كل المؤسسات، بعد أن جمدت وعطلت أنظمتها وقوانينها، إبتداء من فوضى أنظمة المرورإلى أزمة النظافة العامة وتراكم جبال الأوساخ والحشرات والنفايات والكلاب الضالة فى الطرقات والشوارع والأحياء، سواء فى قلب العاصمة ذاتها أوالضواحي أوالمدن والقرى المختلفة، إلى أزمة البطالة التى تركت الآلاف من الشباب وخريجي الجامعات والمعاهد المهنية والصناعية والتجارية وغيرها دون عمل لعشرات السنين، لتعرضهم لدوافع الجريمة وإدمان المخدرات والإحباط والإنتحار، إضافة إلى أزمة رغيف ولقمة العيش ومواجهة غول الغلاء الذى أخذ ينهش بأجساد المواطنين، إلى إختلال حياة السكان فى الأحياء العشوائية ممن يعيشون حياة بائسة بين الحياة والموت..! وهكذا وضع هذا النظام الدكتاتورى البائد الغالبية العظمى من شعب مصرالعزيز طوال هذه الحقبة التاريخية الطويلة كرهينة بين يديه، وجعل منه شعبا أومجتمعا معدما بائسا فقيرا، لبينما النظام وشلله وأزلامه يتربعون على ثروات كبيرة من مكتسبات ومقدرات وخيرات البلاد من المال العام والمشروعات والشركات والعقارات والمصانع ومليارات الأموال الفلكية المثيرة التى صادرها وسرقها من قوت الشعب المصري، وهوالشئ الذى تكشف فعلا وأظهرته التقاريروالحقائق التى نشرت حتى الآن أثناء وبعد الإطاحة بالنظام، وستكشف الأيام ماهو قادم من فضائح السرقات والمنهوبات التى ستعلنها المحاكمات القادمة التى سيخضع إليها أركان ورموز النظام، وربما ماهوأكبروأعظم من هذه الإنتهاكات..! كما ولاننسى ماسخره إعلام النظام من مزاعم، للممارسة إذاعة الأكاذيب وبث وسائل الإسفاف من الدعايات والتقاريرالصحفية الجوفاء التى ينشرها عبر وسائله، أوعبرإستخدامه لأنصاره وأعوانه من المنتفعين والمنافقين والمزمرين والمطبلين والمتملقين لتضليل الرأي العام حول مزاعم سياساته الناجحة ونشرالدعايات والأكاذيب الفارغة، حول ماحققه من إنجازات الإستقراروالتقدم والنمووالحياة الرغيدة التى حققتها للمواطن المصري، وكما فعل أخيرا فى تشويه أحداث وتطورات هذه الثورة..! وأعتقد أن ماتكشف من حقائق لبعض هذه الأكاذيب لحتى الآن لهوخيردليل على فضائح المتملقين والمطبلين الذين يجيدون صياغة وصناعة التزويروالكذب والتضليل من أجل إرضاء سلطة الحاكم، وبمايعتقد بأنه يسدي إليها خدمة يدرك مقدما وفى قرارة نفسه بأنها كاذبة ومزورة..! ولكن ما نتأمله هوأن يتعض الكثيرين منا لهذه الأحداث، ليكون ذلك درسا وعبرة ومن ثم تأسيسا للقضاء على ظاهرة الصورة النمطية المقيتة فى العالم العربي للتملق بالحمد والتسبيح والتطبيل والتزميربتمجيد الحاكم بأمره، وعلى أساس أن مايتنفسه الناس، إنماهو منحة مجانية منه يمنحها لهم أويقطعها عنهم وقت مايشاء ويريد..! وبعد فأنني أظن أن أحداث هذا الإنفجارالمزلزل والمدمرعلى أيدي مجموعة من الشباب المؤمن بعدالة قضيته وهم من نفس وذات شبيبة المجتمع المهمشة وممن كان يعبرأويرمزإليها النظام ورموزه بالنظرة السلبية المجتزئة، ووصفهم بأنهم من الشباب (الصايع) المستهترالذى يقضي وقته على صفحات الأنترنت و( الفيسبوك) هم ذاتهم الذين فجروا هذه الثورة بصدورهم العارية، فسطروا هذا المجد التاريخي لهذه الملحمة التى أزاحت الكابوس الجاثم على صدورهم، فجاءت ثورتهم كبركان هادرومارد عربي جبار نهض من قمقمه ليزلزل الأرض تحت أقدامه وليمحق بغطرسة المكابرين وبشلل الفاسدين والمرتشين والمرقة والمعتدين، والقتلة والسارقين وناهبي قوت ومال الشعب ومكتسباته من الذين باعوا الضمائرواشتروا الذمم الميتة، فكانت ثورتهم، هي ثورة الشعب على الطغيان والعدوان، وعلى الإستبداد والإستغلال والقهروالإستعباد، وعلى الفقروالبطالة والفساد، فانهارالنظام وتهاوت فلوله وانتهت بسقوطه حقبة تاريخية مظلمة من تاريخ مصرأرجعته للوراء ثلاثون عاما كانت خلالها تحكمه بقبضة بوليسية قمعية سلطوية حديدية، وجلبت الخراب والذمارلشعبه الذى أفقرته وجوعته وأهانته وأذلته وامتهنت كرامته وصادرت حرياته وآماله وأحلامه وتطلعاته وطموحه نحو الديمقراطية والحرية وميادين التنمية الإنسانية والحضارية التى يشهدها العالم. وهكذا توجت هذه الثورة بهذا الإنتصار الساحق بسقوط الصنم لتعيد لمصر كرامتها وعزتها ومجدها وهيبتها ومكانتها اللائقة بها وبدورها التاريخي المجيد، فلاغرو في أن تعيش مصراليوم الإبتهاج والفرح، بعد أن تحررالشعب ونزعت منه رهبة الخوف والتنكيل والعذاب. وصدق الشاعرالعربي أبوالقاسم الشابي فى قصيدته الملحمية التاريخية حينما قال: اذا الشعب يوما أراد الحياة..فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي..ولابد للقيد أن ينكسر وهنا لابد لي وأن أتقدم بالتحية والإجلال والإكبارللشهداء الذين ضحوا بأرواحهم ولجميع الأبطال الذين قادوا هذه الملحمة التاريخية، ولشعب مصرالعظيم فى سبيل تحريربلادهم، لتعود لمصرمكانتها ومنعتها وكرامتها وعمقها العربي، داعيا الله بأن يثوب ويرحم الشهداء ويسكنهم جنات النعيم مع الصالحين والصديقين، وآملا فى ذات الوقت أن تتحقق تطلعات الشعب المصري فى الوصول إلى الحكم الديمقراطي الحقيقي لاختيار رئيسها الذي ينتخبه الشعب فى إنتخابات تعددية نزيهة وعلى أساس يسمح فيه بالتداول السلمي للسلطة، وفى مدة لاتتجاوز دورتين رئاسيتين، وحتى لايأتيهم دكتاتورآخر يسومهم ويلات العذاب، وراجيا الله بأن يمن على مصروالأمة العربية وجميع المخلصين من أبنائها ويديم علينا وعليهم نعمة الأمن والإستقرار. - وفى الختام أود هنا أن أشيرإلى ملاحظة هامة، ربما أستلفتت البعض حول بعض القضايا التى أوردتها فى هذا الموضوع، فأوضح أنه بحكم كونى أعيش قريبا من قضايا الشأن المصري منذ سنين طويلة، فقد لامست وعايشت فعلا هذه الأوضاع الصعبة التى لامستها عن كثب، فعايشت المشاكل واستمعت إلى تذمرالناس وشكاواهم، والمعاناة المستمرة التى يعيشها المواطن المصري، فضلا عما نعرفه جميعا عن حجم التراجع الكبيروالملحوض الذى أدى بتحول دورمصرالداعم لنصرة القضايا العربية، منذ تسلم الرئيس المخلوع السلطة فى العام (81م) وكذلك مايلاحظ فى تراجعها فى مجمل فعالياتها وأنشطتها ودورها القيادي والريادى والتاريخي، فى مختلف الصعد والمجالات الثقافية والفكرية والفنية والإقتصادية والصناعية والسياسية، وربما كان ذلك ضمن محط إهتماماتي بهذه القضايا التى أفردت لها جانبا من هذه الإهتمامات التى دفعتني للتطرق إليها، من قبل، فقد تناولت ذلك فى مقال سابق تحت عنوان: (هل أنتهت الريادة لدورمصر..فى السياسة والثقافة والفنون والآداب..؟) - ونشر كذلك في هذه الشبكة- طرحت فيه جملة من هذه القضايا المشمولة بمعاناة المواطن، وخاصة مايتعلق منها بتراجع دورمصرفى جوانب كثيرة، وأهمها دورها القيادي للأمة العربية، نشرفى صحيفة مصرية معروفة، وفى بعض الشبكات الالكترونية المصرية والمحلية والعربية منذ عدة أشهر، وقد وصلتني خلال ذلك ردودا كثيرة من بعض الزملاء والقراء المصرين وغيرهم، وجميعها كانت متعاطفة ومؤيدة لهذه الحقائق، وقد كنت دائما على يقين تام بحدوث الإنفجارفى أية لحظة مواتية وقريبة، على خلفية هذه الأوضاع غيرالطبيعية، فكانت بداية الشرارة هوالحدث التونسى القاصم، وهاهوالحدث الأكبرلهذا التحول التاريخى فى هذه الثورة يفرض على مرة أخرى تناول هذه القضايا من زاوية ثانية، وبصورة مفصلة ومطولة إلى حدما، أستميح القارئ عذرا فى الإسترسال والإسهاب فى سردها. أخيرا أقدم أصدق وأجمل أمنياتي الطيبة لشعب مصرالشقيق على هذا الإنجاز المتفرد، وأبارك له إنتصاره المجيد، ومتنيا له المزيد من الإنتصارات على كل الجبهات وفي كل الحقول، وأن تتحقق له أمانيه فى الحرية والإستقلال، وأن يعم الرخاء والإستقرارفى ربوعه، وأن ينال كل ما يتمناه من الحياة الكريمة وبحبوحة العيش السعيد، لتستعيد مصربهذه الثورة الملحمية التاريخية عافيتها ومجدها ومكانتها الريادية والقيادية النضالية الداعمة لقضايا التحررفى الوطن العربي..وعاشت مصرحرة أبية عزيزة كريمة، رمزا سياديا قويا ومنيعا لأمتها العربية وتاريخها ومجدها العريق. احمد علي الشمر [email protected]