«اقطعوا الطريق على الغرباء».. هذه العبارة التى وجهتها وكالة الأنباء الصينية الرسمية «شينخوا» إلى قادة شرق آسيا خلال قمتهم الأخيرة فى كوالالمبور، تعبر عن توجه السياسة الخارجية والدبلوماسية الصينية فى الفترة الأخيرة نحو العمل على حل جميع الخلافات العالقة مع الدول المجاورة، بما فيها مشكلات بحر الصين الجنوبي، عبر «دبلوماسية الجوار» و«لغة المصالح» المشتركة، لقطع الطريق على الولاياتالمتحدة وغيرها من الدول، التى تعتبرها بكين متطفلة على القضية وليس من حقها التدخل فيها. ورغم أن الصين كانت تعلن دائما أنها تعتمد الحوار المباشر أساسا لحل جميع الخلافات، وأنها تستبعد خيار استخدام القوة العسكرية فى هذا الإطار، فإن الفترة الأخيرة شهدت تحركات عملية على أكثر من مسار، وليس مجرد تصريحات سياسية تصدر من المسئولين الصينيين فى مناسبات مختلفة، فخلال شهر نوفمبر الحالى فقط قام الرئيس الصينى شى جينبينج بزيارة نادرة إلى فيتنام، والتقى بعدها فى سنغافورة بزعيم تايوان ما يينج جيو، فى لقاء هو الأول بين زعيمى الصينوتايوان منذ عام 1949، كما شارك فى قمة منتدى التعاون الاقتصادى لدول آسيا والمحيط الهادى «ابيك» فى العاصمة الفلبينية مانيلا، ولم تغب الصين كذلك عن قمة قادة دول شرق آسيا، التى حضرها رئيس مجلس الدولة (الوزراء) الصينى لى كيه تشيانح، فى العاصمة الماليزية كوالالمبور. رد دبلوماسى هذه التحركات الصينية النشطة للدبلوماسية الصينية تواكبت مع ما تعتبره بكين تصعيدا أمريكيا لمشكلة بحر الصين الجنوبي، والذى تمثل فى إرسال واشنطن سفينتين حربيتين إلى المنطقة، وقيام وزير الدفاع الأمريكى آشتون كارتر بزيارة إحداهما، والتأكيد على استمرار الوجود الأمريكى فى المنطقة لضمان حرية الملاحة البحرية، على حد تعبيره، وهو التصرف الذى أعقبه إعلان البحرية الصينية عن تنفيذها مناورة «المنافسة الشرسة»، التى تحاكى الحرب وشاركت فيها ثلاثة أساطيل بمدمرات وفرقاطات كبيرة ومروحيات على حاملات وغواصات جديدة، فى مناطق مختلفة من بحر الصين الجنوبي، لتحسين القدرات القتالية المضادة للغواصات لدى سلاح البحرية على أساس أنظمة معلوماتية. ورغم أنه يمكن اعتبار هذه المناورة الصينية ردا على التصعيد الأمريكي، فإن بكين نشطت أيضا على المسار الدبلوماسى لاحتواء الخلافات مع الجيران بالحوار المباشر، وتدعيمه بالتعاون الاقتصادى والمصالح البراجماتية المشتركة، وكانت البداية بزيارة الرئيس الصينى دولة فيتنام صديقة الصين تاريخيا. أساس جديد زيارة الرئيس الصينىفيتنام، وهى الأولى له منذ توليه منصبه، لم تستغرق سوى 27 ساعة، لكنها استطاعت تجسيد التوجه الصينى الجديد للتحرك العملى لحل الخلافات بالحوار المباشر، فبالإضافة إلى الاتفاق على مشاريع مشتركة وزيادة الاستثمارات الصينية فى فيتنام، فقد تناولت لقاءات الرئيس شى جينبينج مع المسئولين فى فيتنام قضية بحر الصين الجنوبي، وتم التأكيد على إدارة الخلافات والسيطرة عليها بشكل ملائم وحماية الاستقرار فى البحر والتركيز على التعاون، وحسب البيان المشترك اتفقت الصينوفيتنام على إطلاق مهمة مسح مشتركة للمياه خارج مدخل خليج بيبو فى شهر ديسمبر المقبل، وهو ما يمثل بداية تعزيز التعاون الملاحى بين البلدين. وفى كلمة أمام البرلمان الفيتنامى قال شى جينبينج إن الشعبين الصينىوالفيتنامى حاربا معا ضد الغزاة على مر التاريخ، ويتقاسمان الآن القضية نفسها لبناء بلد ينعم بالرخاء، مطالبا الجانبين بتوريث والحفاظ على الصداقة التقليدية الودية، فى إشارة إلى أن الصين هى صديقة فيتنام تاريخيا وليس الولاياتالمتحدة التى حاربتها سابقا، وتحاول اليوم إشعال فتيل أزمة بين فيتناموالصين على خلفية خلافاتهما حول السيطرة على بحر الصين الجنوبي. رابطة اللحم اختراق آخر سعت السياسة الخارجية الصينية لتحقيقه، وهو اللقاء التاريخى الذى جمع بين زعيمى الصينوتايوانبسنغافورة فى السابع من نوفمبر الحالي، وهو الأول من نوعه على هذا المستوى منذ هروب القوميين «الكومينتانج» بقيادة تشيانج كاى شك إلى تايوان عام 1949 عقب الحرب الأهلية وانفصالها عن «البر الرئيسى للصين»، ورغم أن اللقاء غلب عليه الطابع البروتوكولى ولاقى معارضة من المعارضة التايوانيه، فإنه يعتبر تقدما كبيرا وكسرا لجمود استمر سنوات، وأدى إلى تشجيع حركة السفر بين جانبى المضيق وتشجيع رجال الأعمال من الجانبين على الاستثمار لدى الجانب الآخر. قمة أبيك مشاركة الرئيس الصينى شى جين بينج فى قمة منتدى التعاون الاقتصادى لدول آسيا والمحيط الهادى «ابيك» فى العاصمة الفلبينية مانيلا، كانت خطوة أخرى فى هذا الاتجاه، فرغم اعتراض بكين ورفضها قرار محكمة العدل الدولية قبولها التحكيم فى قضية بحر الصين الجنوبى بناء على طلب تقدمت به الفلبين، حرص الرئيس الصينى على المشاركة بنفسه فى القمة، وأرسل عددا من الرسائل المهمة خلال كلمته أمام الاجتماع، حيث دعا الدول إلى عدم «السماح لأى شيء بعرقلة عملية التنمية فى منطقة آسيا- الباسيفيك، وألا تدخر الدول الأعضاء فى ابيك أى جهود من أجل رعاية البيئة السلمية، التى من شأنها مساعدة التنمية»، وطرح مبادرة من 4 نقاط لتفعيل اتفاقية التجارة الحرة بين دول المنطقة، وشدد على أن خطة الترابط تحتاج لتطبيق جاد من أجل تحقيق نتائج ملموسة. تهديد أمريكى تأتى هذه التحركات الدبلوماسية الصينية الأخيرة فى ظل ما تعتبره بكين تهديدا خطيرا للاستقرار فى بحر الصين الجنوبي، الذى يتمثل فى التدخل الخارجي، معتبرة أن استراتيجية واشنطن المسماة ب«إعادة التوازن لآسيا الباسيفيك» لعبت دورا كبيرا فى تشجيع بعض المطالبين باتخاذ خطوات ساخنة فى هذه القضية، وهو ما أدى إلى زيادة تعقيدها وإطالة أمدها. وترى بكين أنه لتسوية النزاعات فى أقرب وقت ممكن والحفاظ على سلمية الممر الملاحى بشكل دائم، فإنه يتعين على «الغرباء» سحب أياديهم المتدخلة وإطلاق العنان كاملا للحكمة والمصالح البراجماتية لتسوية هذه النزاعات بشكل مباشر، فى إشارة إلى اليابان أيضا التى قالت الصين إنها غير معنية بالقضة وليس من شأنها التدخل فيها أو الحديث عنها، وكان ذلك ردا على تصريحات لرئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى قبل انطلاق قمة العشرين فى مدينة أنطاليا التركية منتصف نوفمبر الحالي، والتى قال فيها إنه متحمس لطرح قضية أنشطة البناء على إحدى جزر بحر الصين الجنوبى فى ضوء حرية الملاحة والالتزام بالقانون الدولى خلال قمة مجموعة العشرين المقبلة. تأكيد صينى وفيما يمكن اعتباره ردا أيضا على تصريحات رئيس الوزراء الياباني، وتصريحات الرئيس الأمريكى باراك أوباما قبل انطلاق قمة دول شرق آسيا، والتى قال فيها إن مشكلة بحر الصين الجنوبى ستكون موضوعا رئيسيا للمناقشة، ووصف مستشارة الأمن القومى الأمريكى سوزان رايس للقضية بأنها «قضية مركزية للمناقشة»، جاءت كلمة رئيس مجلس الدولة الصينى لى كيه تشيانج أمام قمة الصين والآسيان (10+1) فى كوالالمبور لتؤكد أن الصين واثقة من بناء بحر الصين الجنوبى بالتكاتف مع الآسيان، ما يجعله بحرا للسلام والصداقة والتعاون من أجل مصلحة دول الإقليم». مشددا على أن حرية الملاحة فى بحر الصين الجنوبى تتماشى مع القوانين الدولية، وأن بلاده تعتزم التوصل سريعا مع دول الآسيان إلى مدونة سلوك فى بحر الصين الجنوبى على أساس التوافق. وتعتبر الصين تدخل الولاياتالمتحدة فى مشكلة بحر الصين الجنوبى نابعا من مصالحها المباشرة، وليس لحماية الملاحة الدولية كما تدعي، حيث ترى بكين أن من شأن الوضع المتفجر ببحر الصين الجنوبى أن يساعد واشنطن فى الحفاظ على وجودها المهيمن بالمنطقة. وردا على ما تعتبره الصين مزاعم أمريكية حول تهديد صينى لحرية الملاحة فى بحر الصين الجنوبى قالت المتحدثة باسم الخارجية الصينية هوا تشون يينج: «هناك أكثر من 100 ألف سفينة من مختلف بلدان العالم تبحر بأمان وبحرية فى بحر الصين الجنوبى سنويا، ولا توجد مشكلات على الإطلاق .والصين بحاجة إلى مرور آمن وغير معوق فى الممر الملاحى أكثر من أى دولة أخري».