"أعداؤنا الذين نحاربهم اليوم..نحن من مولهم قبل 20 عاما".. بهذا الاعتراف كشفت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون المرشحة الديمقراطية المحتملة للرئاسة عن الاستراتيجية التى طالما انتهجتها أمريكا فى حروبها بالوكالة حول العالم، كما دشنت أيضا مرحلة جديدة من الحملات الانتخابية، يسعى فيها المرشحون للتنصل من أخطاء الماضى وطرح رؤية جديدة للتصدى للإرهاب الذى تحمل أمريكا أوزاره اليوم. وعلى الرغم من أن اعترافات كلينتون أمام الكونجرس اقتصرت على ما زرعته الولاياتالمتحدة من بذور الإرهاب والجماعات التكفيرية فى قلب آسيا، فإن راند بول المرشح الجمهورى المحتمل للرئاسة وجه اتهامات صريحة للإدارة الأمريكية الراهنة بدعم تنظيم "داعش" الإرهابي، من خلال استراتيجية الرئيس الأمريكى باراك أوباما لمحاربة الإرهاب فى سوريا والتى تضمنت دعم المعارضة المعتدلة فى سوريا. اعترفت كلينتون رسميا أمام الكونجرس بأن الولاياتالمتحدة مولت ودعمت الجماعات التكفيرية لتشكيل تنظيم "القاعدة" الإرهابى فى أفغانستان، بهدف دفعه للتصدى للقوات الروسية فى أفغانستان نيابة عنها وهزيمتها. فتنظيم "القاعدة" الذى يعتبر المظلة الرسمية للإرهاب فى العالم ما هو فى حقيقة الأمر إلا صنيعة أمريكية منذ أيام المجاهدين الأفغان والغزو السوفييتي، كما اعترفت الوزيرة السابقة والمرشحة الحالية للبيت الأبيض بأن واشنطن تخلت عن أفغانستان وباكستان لاحقا، وتركتهما فى مواجهة الفكر المتطرف للقاعدة وحلفائها، بمجرد هزيمة روسيا هناك. فالمصالح الأمريكية آنذاك لم تر أن هناك ما يهددها فى انتشار مثل هذه الأفكار المتطرفة التى تتنافى مع المنطق والإنسانية، فى قلب آسيا وتدميرها لشعوب هناك. أما الجمهورى "رودى جولياني" عمدة نيويورك السايق، فقد أكد هو الآخر أن "داعش" هى صنيعة أوباما الذى رفض الانصياع لصوت العقل وامتنع عن تمويل المعارضة الشرعية فى سوريا، أو حتى منح القوات السورية فرصة القضاء على داعش، مفضلا تدريب وتمويل من وصفهم ب"المعارضة المعتدلة". وقد لجأت الولاياتالمتحدة دائما إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة فى كل عصر من العصور للتصدى لعدوتها الأولى روسيا، فوفقا لتقرير لمركز دراسات "جلوبال سيرش"، فإن الرؤية الأمريكية للعالم منذ الحرب الباردة فى منتصف القرن الماضى كانت بسيطة للغاية، فالعالم بالنسبة لواشنطن انقسم إلى جبهتين : الأولى : روسيا ودول العالم الثالث التى اعتبرتها أداة يستخدمها الروس، والثانية الولاياتالمتحدة والاسلام المتطرف المسلح والذى استخدمته بدورها للتصدى للفكر السوفييتي. واستدل تقرير مركز الدراسات الكندى على ذلك بإشارته إلى استغلال الولاياتالمتحدة لجماعة الإخوان الإرهابية وتجنيد عناصرها فى السبعينيات من القرن الماضى للتصدى للفكر الماركسي، والذى انتشر وتأثرت به أنظمة وسياسات العديد من دول الشرق الأوسط آنذاك. وخلص التقرير إلى أن داعش ما هى إلا وسيلة جديدة صنعتها واشنطن، بهدف تقسيم وهزيمة الشرق الأوسط الغنى بالبترول، إلى جانب اللعب على فزاعة التهديد الإيرانى المتنامى فى المنطقة، وإشعال نيران العداء التاريخى بين السنة والشيعة فى دول المنطقة. ولكن يبدو أن هجمات باريس الإرهابية، وحالة الذعر التى اجتاحت الغرب من احتمال تمدد داعش لتضرب أوروبا وأمريكا من بعدها قد غيرت من قواعد اللعبة، فقد دفعت مرشحى الرئاسة الأمريكية للتنصل من استراتيجية أوباما وسياساته الخارجية الفاشلة على مدار ولايتين، والتى تضمنت موجة من الدمار والإرهاب اجتاحت الشرق الأوسط تحت مسمى "الربيع العربي"، ليتحول الإرهاب وكيفية حماية الشعب الأمريكى من شروره إلى محور الحملات الانتخابية الراهنة. فسواء قبلت إدارة أوباما بهذه الفرضية أم لا، فإن المؤشرات تؤكد أن عناصر المعارضة السورية التى طالما وصفها الجانب الأمريكى ب"المعتدلة"، واختار البنتاجون والمخابرات الأمريكية "سى آى إيه" تدريبها وتسليحها، لم تكن فى واقع الأمر سوى نواة لداعش. فالأقمار الصناعية الأمريكية التقطت من قبل صورا لعناصر إرهابية تعبر الحدود التركية - الروسية والعراقية ، مستخدمة نفس ماركات وموديلات السيارات التى زودت أمريكا المعارضة السورية بها من قبل، ناهيك عن السلاح الذى تستخدمه عناصر داعش فى الوقت الراهن، والذى يتطابق مع نوعيات السلاح، الذى لا تزال تزود واشنطن به عناصر المعارضة السورية "المعتدلة" من وجهة نظرها. وعلى الرغم من أن المرشحين الأمريكيين يحاولون التلاعب بفكرة أن المستقبل سيحمل تغييرات شاملة فى السياسات الأمريكية الخارجية، للتصدى لشبح الإرهاب الذى يزعمون أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى منهم، فإن التاريخ يؤكد أن السياسات الأمريكية ثابتة فى كل العصور، وإن أثبتت قصورها وفشلها على المدى البعيد. والسؤال الآن، هل ستتوقف واشنطن عن دعم الإرهاب فى سوريا بعد تعالى الأصوات الداخلية التى تعترف بمسئولية الإدارات الأمريكية عن ظهور القاعدة وداعش وتنامى قوتهما .. أم أنها ستنتظر حتى تكتوى بنيران الإرهاب؟