تشهد الرياض اليوم الانعقاد الرابع لقمة الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية بعد عشرة أعوام من انطلاق القمة الأولى فى برازيليا. وفى الواقع أن أسبا هى نتاج مجهود دبلوماسى للرئيس البرازيلى السابق لولا دا سيلفا الذى بدأ فى عام رئاسته الأول 2003 زيارات رسمية لعدد من الدول العربية وفى مقدمتها مصر ناقلا اهتمام برازيلى كبير ببداية مرحلة جديدة فى علاقات دول أمريكا الجنوبية بالدول العربية. وقد توج هذا النشاط بانعقاد قمة أسبا الأولى فى 2005، ثم تبعتها القمة الثانية فى الدوحة 2009، ثم الثالثة فى ليما 2012 وقد كانت تشهد القمم حضور غالبية رؤساء دول أمريكا الجنوبية إن لم يكن جميعهم كما كان الأمر فى القمة الأولى، وغياب معظم الرؤساء والملوك العرب. فالدراسة المبدئية للسياسة الخارجية العربية تجاه دول أمريكا الجنوبية فى مقابل السياسة الخارجية لتلك الدول تجاه الدول العربية، تشير بوضوح إلى تميز السياسة الخارجية الجنوب أمريكية بحماسة واهتمام يفوق نظيرتها العربية بشكل واضح. على المستوى السياسى: يتشكل جدول القضايا السياسية المقرر مناقشتها فى القمة من مجموعة من القضايا العربية على رأسها القضية الفلسطينية ثم الأوضاع الراهنة فى مناطق الصراع فى سوريا وليبيا واليمن. إلى جانب القضايا السياسية فى أمريكا الجنوبية وتأتى على رأسها قضية النزاع الأرجنتينى البريطانى على جزر الفوكلاند. قاطرة التأييد الفلسطيني فيما يخص القضية الفلسطينية، والتى لم تغب يوما عن اهتمام دول أمريكا الجنوبية، يمكن القول أن القضية حظيت بتأييد قوى وجماعى من دول القارة (فيما عدا كولومبيا الدولة الوحيدة فى القارة التى تستضيف قواعد عسكرية أمريكية). وقامت أكثر من دولة فى القارة بإغلاق سفارة إسرائيل لديها عقب الحرب على غزة. كما أكدت إعلانات قمم أسبا السابقة على دعم الموقف الفلسطينى ورفض عملية الاستيطان. بالإضافة إلى أن الموقف اللاتينى كان بمثابة قاطرة التأييد الدولى لفكرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية بصفة مراقب فى الأممالمتحدة. أما فيما يخص الثورات العربية فأيضا يمكن رصد موقف واضح لدول أمريكا الجنوبية منذ بداية الاحتجاجات فى 2011 وحتى الوقت الراهن فعلى خلاف تأييدهم للثورتين المصرية والتونسية، إلا أن موقف دول أمريكا الجنوبية من الأحداث الجارية فى كلا من سوريا وليبيا مختلف تماما، حيث تتبنى دول أمريكية على رأسها فنزويلا وشركائها فى التحالف البوليفارى إلى جانب البرازيل والأرجنتين مواقف واضحة من رفض الثورة ضد نظامى الأسد والقذافى وأيضا موقف رافض للتدخل العسكرى الخارجى (وخاصة الغربى). وقد كانت تصريحات الرئيس الفنزويلى السابق هوجو شافيز قبل وفاته هى الأقوى فى تأييد النظامين بالإضافة الى قيام فنزويلا بدعم مالى ونفطى رسمى لنظام الأسد. معضلة الصراع السوري ويفهم هذا الموقف فى إطار التعاون الاقتصادى والتنسيق السياسى القوى بين هذين النظامين والعديد من دول القارة وخاصة بعد موجة التحول اليسارى اللاتينى المرتبط غالبا بتيار معاد للهيمنة الامريكية وأيضا لدولة إسرائيل. وقد عبر خطاب رئيسة الأرجنتين كريستينا كريشنر أمام الأممالمتحدة فى سبتمبر 2014 والتى هاجمت فيه بشدة التدخل العسكرى فى سوريا تحت مظلة التحالف الدولى فى كلمة قوية حملت فيها الولاياتالمتحدة وبعض الدول الأخرى الداعمة للمعارضة السورية ضد نظام بشار السبب فى ظهور داعش والتدهور الأمنى والإنسانى فى سوريا. ومن المتوقع أن يكون الموقف من الصراع فى سوريا من أكثر القضايا الشائكة والتى يصعب فيها الوصول إلى توافق عربى لاتينى. كما تشير تصريحات مؤسسة الخارجية البرازيلية (ايتاماراتى) إلى أن دول أمريكا الجنوبية تريد مناقشة قضية اللاجئين من المنطقة العربية، وأنهم يؤيدون البحث عن حلول. ووفقا للمصادر الدبلوماسية، فإن البرازيل قد منحت 8 آلاف تأشيرة دخول للاجئين السوريين. من جانب آخر، أعلن الرئيس الفنزويلى نيكولاس مادورو عن سفره إلى الرياض للمشاركة فى القمة ولمناقشة قضية انخفاض سعر البترول مع الجانب السعودى باعتبار الدولتين من أهم الدول النفطية فى العالم. وقد سبق بالفعل قيام مادورو بجولة فى دول الخليج لإيجاد حل مشترك لمواجهة الأزمة التى تؤثر بقوة على الاقتصاد الفنزويلى. ومن الجدير بالذكر أن دول الخليج تتبنى موقفا مغايرا للموقف الفنزويلى وقد رفضت مؤخرا دعوة فنزوبلا لعقد قمة أوبك بهدف مناقشة أزمة انخفاض سعر البترول. اختلال الميزان التجاري على المستوى الاقتصادى: وفقا لأحد التقديرات، زادت معدلات التجارة البينية بين الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية من 10 مليارات دولار فى 2004 (قبل عام واحد من قمة أسبا الأولى) إلى 34.7 مليار دولار الآن. وتستحوذ البرازيل وحدها على ثلثى هذا الرقم حيث تبلغ حجم التجارة بينها وبين الدول العربية 24.8 مليار دولار. مع الأخذ فى الاعتبار أن الميزان التجارى يميل بقوة لصالح دول أمريكا الجنوبية التى تُحسب صادراتها للدول العربية بالمليارات فى حين تُحسب الصادرات العربية لأمريكا الجنوبية بالملايين. فعلى سبيل المثال، ارتفعت التجارة بين الإماراتوالبرازيل إلى 3 مليارات دولار فى العام الماضى مقارنة ب 2.7 مليار دولار فى 2012. وبلغت صادرات البرازيل إلى الإمارات إلى 1.8 مليار دولار، بينما تجاوزت قيمة واردات البرازيل من الإمارات نحو 177.4 مليون دولار، ليبلغ الفائض التجارى بين البلدين 1.7 مليار دولار لمصلحة البرازيل. وتتركز عمليات التبادل التجارى بين المنطقتين فى الوقت الراهن على بنود محددة فى السلع المتبادلة. وتعتبر أهم الصادرات العربية لدول أمريكا الجنوبية هى الأسمدة الزراعية والزيوت المعدنية والغزول القطنية والمطاط وإطارات السيارات والزجاج والمصنوعات والزجاجية والاقمشة من الألياف الصناعية (مصر)، الفوسفات (المغرب)، النفط ومشتقاته (دول الخليج). أما أهم الواردات العربية هى: السكر وخام الحديد واللحوم والصويا والذرة الصفراء. ومن هذا يتضح أن الدول العربية تركز بصورة كبيرة فى واردتها من منطقة أمريكا الجنوبية على الغذاء سواء من الزراعة او الثروة الحيوانية. ولكنها ما زالت بعيدة عن الانفتاح على منتجات تلك القارة من السلع الصناعية، على الرغم من أن تجمع الميركوسور يتميز بصناعاته المتقدمة والمتنوعة فهو يعتبر احد المنتجين والمصدرين الرئيسيين للسيارات ومكوناتها، والملابس والمنسوجات، والطائرات ومستلزماتها، ومنتجات الحديد والصلب، والسفن، والصناعات الجلدية. تأتى البرازيل فى مقدمة الدول الجنوب أمريكية توجها نحو تعزيز التجارة والاستثمار مع الدول العربية يليها الارجنتين، كما تعد كلتا الدولتين أكثر الأماكن فى القارة الجنوبية جذبا لاستثمارات رجال الأعمال والشركات العربية. فعلى سبيل المثال هناك شركات زراعية سعودية خاصة تمتلك أراضى زراعية بهدف الزراعة والإنتاج الزراعى فى الارجنتين برأس مال بلغ 100 مليون دولار. وأيضا بلغ عدد الشركات التجارية البرازيلية فى الإمارات 25 شركة. من جانب آخر تبلغ استثمارات شركة أودبريشت البرازيلية للإنشاءات 1.25 مليار دولار فى مجمع صُحار فى عُمان، وهى نفس الشركة التى قامت بإنشاءات فى مطار أبوظبى. من الممكن القول إنه من الجانب الجنوب الأمريكى يبدو أن البرازيل والأرجنتين من أكثر الدول نشاطا فى علاقاتها التجارية مع الدول العربية، ومن الجانب العربى تأتى السعودية والإمارات فى مقدمة الدول العربية الأكثر توجها نحو التجارة والاستثمار المشترك مع المنطقة. وهذا على الرغم من أن مصر هى الدولة العربية الوحيدة الموقعة على اتفاقية التجارة الحرة مع الميركوسور (التجمع الاقتصادى بين البرازيل، والأرجنتين، وأورجواى، وبراجواى، وفنزويلا) فى 2010 والتى لم تدخل حيز التنفيذ انتظارا لتصديق برلمانات دول الميركوسور. تعتبر البرازيل الشريك التجارى الأول لمصر فى منطقة أمريكا الجنوبية يليها الأرجنتين، حيث تعتبر البرازيل مدخلا للصادرات المصرية إلى المنطقة. وقد استطاعت بالفعل العديد من الشركات المصرية العاملة فى مجال الرخام والأدوات الطبية النفاذ بمنتجاتها إلى أسواق بعض دول المنطقة كشيلى وكولومبيا من خلال المشاركة فى المعارض الدولية المتخصصة بالبرازيل حيث يزور هذه المعارض ممثلو العديد من الشركات بدول أمريكا الجنوبية. وعلى الرغم من أن القمة قد ساهمت فى انتعاش حركة التجارة البينية بين المنطقتين. كما ضمت شركات طيران عربية رحلات طيران مباشرة بين كل من الإمارات وقطر والمغرب من ناحية وساوباولو وريو دى جانيرو فى البرازيل من ناحية أخرى. إلا أنه تظل تلك المعدلات منخفضة إلى درجة كبيرة حيث لا تتعدى 1% من الناتج القومى لكلتا المنطقتين. تمثيل ثقافى بارز على المستوى الثقافي: تشير الإحصاءات إلى وجود ما يزيد على 15 مليون أمريكى لاتينى من أصل عربى، يعيش 10 ملايين منهم فى البرازيل ويتوزع 5 ملايين على بقية الدول وفى مقدمتها الأرجنتين وشيلى، وبشكل عام تتشكل الجالية العربية هناك فى أغلبها من الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، والأهم أن الجالية العربية فى هذه المنطقة هم مواطنون متميزون فى الغالب وكثير منهم ينتمى لفئة كبار رجال الأعمال أو النخبة المثقفة أو شاغلى الوظائف السياسية الرفيعة فى البلاد وخاصة البرلمان والمحليات والحكومة والرئاسة. وتعتبر هذه الجالية هى أهم مقومات التواصل الثقافى والاجتماعى بين المنطقتين. كما أنها تعتبر أحد أسباب الموقف الداعم لحقوق الفلسطينيين. وقد تشكلت فى البرازيل عقب اجتماع قمة أسبا الأولى مكتبة ومركز بحوث أمريكا الجنوبية والدول العربية بيبلياسبا (Bibli Aspa) وهى محاولة جيدة قادها مجموعة من أبناء الجيل الثانى والثالث من المهاجرين العرب لتقوم بتعليم اللغة العربية لأحفاد المهاجرين الذين فقدوا صلتهم بثقافتهم العربية الأصلية وأيضا تعليم الأسبانية والبرتغالية للمهاجرين العرب الجدد لمساعدتهم فى الاندماج فى المجتمعات اللاتينية. إلى جانب القيام بحركة ترجمة من العربية إلى البرتغالية والأسبانية والعكس لتبنى جسور للتواصل الثقافى بين المنطقتين. ولكن على أى حال تظل تلك المحاولة وغيرها محاولات ضئيلة لا يمكن أن تلغى حقيقة نقص المعرفة بالأخر وتبادل المعلومات والخبرات والثقافة والفنون بين المنطقتين. دعائم تعزيز العلاقات وأخيرا، يمكن تقديم مجموعة من المقترحات لتعزيز العلاقات بين الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية، على النحو التالي: (u) تدريب الكوادر الفنية المتخصصة بين المنطقتين، فى مجالات عديدة منها الزراعة والثروة الحيوانية، وصناعة الطائرات والسيارات، وصناعة المنسوجات والصناعات الجلدية، وذلك من أجل تبادل الخبرات الفنية والتى فى بعض الأحيان تكون أكثر أهمية وقيمة من الاستثمارات المباشرة أو المنح المادية. (u) التعاون فى مواجهة الفقر والمشكلات الاجتماعية المتعلقة به مثل العشوائيات وأطفال الشوارع والجوع وتدهور التعليم والصحة فى المناطق الفقيرة. وذلك على اعتبار وجود خبرة برازيلية متقدمة فى التعامل مع هذه القضايا. (u) تبادل المعلومات والانفتاح الثقافى والإعلامى بين الجانبين بحيث يصل المستثمرون من الجانبين إلى الطرف الآخر مباشرة وليس عن طريق وسيط، عبر حضور المعارض التجارية والتعرف على احتياجات الأسواق.