عشت ثمانى عشرة سنة ونصفا فى أجواء الرئاسة وخبرت أصول التعامل فى العلاقات بين الدول، ثم درست ماكتب فى هذا المجال بالتفصيل، ولكن لم أقابل لا فى حياتى العملية أو العلمية مثلما حدث فى الأيام الماضية أثناء زيارة الرئيس السيسى لبريطانيا تلبية لدعوة من رئيس وزرائها دافيد كاميرون! وبداية أحييّ الرئيس السيسى لقيامه بهذه المهمة الصعبة فى دولة طالما عادت مصر، وخلال تاريخها القديم والحديث لم تراع مصالح العرب قط! يضاف الى ذلك تبنيها جماعات الإخوان بعد انتهاء حكمهم فى مصر بثورة 30 يونيو، ثم إصرارها لفترة طويلة على النيل من شرعية النظام الذى نتج عن هذه الثورة، حتى بعد الانتخابات التى كانت نتيجتها 97%! وكانت دائما بريطانيا شريكة فى المخططات الغربية ضد مصر والعرب عموما بل فى أحيان كثيرة صانعتها، ولا يريد ساستها أن يتقبلوا فكرة أن الاستعمار انتهت أيامه، وأن الشعوب فرضت حريتها بالدم والنار. فبعد الحرب العالمية الثانية اشتركت بريطانيا فى تدبير سياسية الأحلاف ومناطق النفوذ بدعوى مقاومة الاتحاد السوفيتي، واستخدمت كل الوسائل السياسية والعسكرية والاقتصادية للضغط على العالم العربى لقبولها. ومن سوء حظ الامبراطورية البريطانية المتهالكة بعد الحرب العالمية أن قامت ثورة 23 يوليو فى مصر، وكان هدفها الأول هو القضاء على الاستعمار. وبدأت فورا قرب نهاية عام 1952 مفاوضات الجلاء، التى تعثرت لسنوات أمام إصرار بريطانيا على الاحتفاظ بسيطرتها على قاعدة قناة السويس، ولم يتم توقيع اتفاقية الجلاء إلا فى 19 أكتوبر 1954 بعد أن قُطعت المفاوضات لفترة طويلة من أبريل 1953 حتى يوليو 1954؛ نشطت فى أثنائها حركة الفدائيين فى منطقة القناة، التى كان هدفها إثبات عدم جدوى القاعدة العسكرية فى حالة رفض الشعب لها. وظلت السياسة البريطانية مناوئة لمصر تتربص بها وتعمل على الإضرار بمصالحها، الى أن وصل الأمر الى سحب العرض بتمويل السد العالى ومعها الولاياتالمتحدة والبنك الدولي، وهو الذى رد عليه عبد الناصر بتأميم قناة السويس لاستخدام دخلها فى تمويل المشروع. وفى أثناء دراستى المتعمقة لهذه الفترة التاريخية المهمة اطلعت على الوثائق البريطانية والأمريكية، وبالرغم من أننى كنت مدركة لظروف العصر، وأن بريطانيا وفرنسا كانتا امبراطوريتين لهما مستعمراتهما ونفوذهما العالمي، ومصر دولة صغيرة حديثة الاستقلال بعد أكثر من 75 سنة ذل واستعباد، إلا أن ما قرأته فاق كل تصور وأثار اندهاشى وفضولى فى الوقت نفسه. محاضر اجتماعات مجلس الوزراء البريطانى الذى أقر العدوان، مناقشات مجلس العموم ومجلس اللوردات التى ذكرتنى بعصور العبودية القديمة، خطب أنتونى إيدن وأحاديثه الصحفية والإذاعية التى كانت تجسيدا للصلافة والغرور! ثم بدأ العدوان طبقا لخطة ملتوية بدأت بهجوم اسرائيل، ثم إنذار كله غطرسة يطلب من مصر سحب جيشها مسافة 10 أميال من القناة، والموافقة على احتلال مدن القناة الثلاث بورسعيد والاسماعيلية والسويس! والحمد لله أن وقفة مصر الشجاعة فى مواجهة العدوان الثلاثى أثارت الرأى العام العالمي، وانتهى الأمر بانتصارها وانسحاب المعتدين فى 23 ديسمبر 1956. ولكن بريطانيا وفرنسا دفعتا الثمن، وكانت مغامرة السويس أول مسمار فى نعش الامبراطوريتين. هل نسى الساسة البريطانيون كل هذا التاريخ الأسود؟! لا أعتقد.. فمنذ هذا التاريخ ودائما السياسة البريطانية ضد الأمانى القومية العربية، وقد تجلى ذلك بالدرجة الأولى فى عدوان 1967 وما بعدها. والآن ها هى السياسة البريطانية القديمة تطل برأسها عندما يعيد التاريخ نفسه ويرفض الشعب المصرى المخطط الغربى الذى يساند الجماعات الدينية المتطرفة من أجل تفتيت دول المنطقة العربية وتقسيمها الى مناطق عرقية أو ملية؛ حتى تقع ثرواتها ومميزاتها الاستراتيجية كاملة فى يد الغرب. لقد ذهب الرئيس السيسى الى لندن بنية حسنة، ولكنه وجد أن الانجليز لم يتخلوا عن عجرفتهم القديمة. وهذه المرة استغلوا حادث الطائرة الروسية التى سقطت فى سيناء.. أولا: ليكرروا فى إعلامهم المكتوب والمذاع والمرئى أنه نتيجة لتخريب، متبنين ادعاءات جماعة متطرفة، وذلك بالرغم من أن تقرير الصندوق الأسود للطائرة لم ينته بعد! وهنا أتساءل.. إذا كان سقوط الطائرة نتيجة قنبلة تنفجر فى ثانية، فكيف طلب قائد الطائرة النزول فى العريش لأن هناك خللا فيها؟! كلام كله تناقض ومقصود به الإساءة الى مصر! ثانيا: يقوم دايفيد كاميرون باتخاذ قرار تعسفى متسرع بمنع الطائرات البريطانية من النزول فى شرم الشيخ، وذلك قبل المؤتمر الصحفى المقرر لهما. فكانت النتيجة أن أخبار الطائرة غطت على الأهداف الأساسية للزيارة؛ وهى توطيد العلاقات السياسية والاقتصادية مع بريطانيا، وإجلاء موقف مصر بعد ثورة 30 يونيو! وتذكرت أن الحكومة البريطانية قبل أسبوعين بذلت جهدا غير عادى وقامت بإجراءات حسن ضيافة لم نعهدها فى العصر الحديث؛ وذلك عندما استقبلت الرئيس الصينى شى جين بينج وحرمه. لقد أقامت الملكة حفل عشاء له فى قصر باكنجهام حضرته الأسرة المالكة، وتوجهت الملكة اليزابيث اليه بكلمة كلها دبلوماسية ورغبة فى توطيد الصداقة مع الصين!.. الى آخر مظاهر الحفاوة غير المألوفة من الحكومة والبرلمان؛ كل ذلك لأن بريطانيا أصبحت دولة من الدرجة الثانية تهرع لصداقة العملاق الاقتصادى الصيني، وطبعا نتج عن هذا اللقاء اتفاقيات لمصلحة بريطانيا بالدرجة الأولي! وأحب أن أضيف كلمة موجهة الى ساسة بريطانيا الذين مازالوا يعيشون فى أوهام الماضى البغيض.. لقد تغير العالم، وانتهى الاستعمار بصورته التقليدية والجديدة المراوغة الى غير رجعة. لقد فاقت الشعوب من غفوتها وأصبحت أقدارها بيدها، ومهما حدث فلا يمكن أن تعود العبودية ولا التبعية ولا الاستغلال. لمزيد من مقالات د. هدى عبد الناصر