ولد فى أسرة فقيرة، لأب مكافح أكسبه روحا عصامية صامدة، وتدرَّب على الحكى بسماع جدته،وعثر على مخطوطات وكتب فى «سحَّارة كبيرة» تخص جده لأمه، شيخ القرية وإمام الجامع، تعرَّف منها لأول مرة على «محيى الدين بن عربى»، ومسّه أول وميض للتصوف، وملأ نفسه بحب التراث فى تجلياته المختلفة، من الدين إلى التاريخ والعمارة، والأحداث السياسية، والسير الشعبية. وبالدأب امتد أمامه سماط باهر من كتب التراث، من يجلس إليه لا يشبع أبدا، وانعكس هذا على أعماله الإبداعية المتنوعة، فمن السياسى فى «الزينى بركات»، إلى الصوفى فى «هاتف المغيب»، إلى الذاتى والعام فى «التجليات» التى تعد مرثية مطولة لأبيه الذى اختطفه الموت قبل أن «يرد إليه الجميل». وقع بصره، وتفتح وعيه، على «آمالى القالى»، و«نفح الطيب» و«الكامل»، واصطحبه أبوه وهو فى سن الرابعة إلى الصلاة فى مسجد الإمام الحسين، فاستولى «الحسين» على روحه، وظل يهاتفه، ويتجسد له من حين إلى آخر طوال حياته، وامتلأ وجدانه بتجليات «ابن عربى»، وبلاغة «النفرى»، وحداثية «التوحيدى»، وهام فى رحابات المساجد، وأنصت إلى الآذان، وتراتيل الصلوات، وارتاد حلقات الإنشاد، وحين شاغلته الكتابة على استحياء، جرَّب القصَّة، وحين قرأ أعمال «نجيب محفوظ»، واختلف إلى مجلسه، هيمنت عليه «الرواية»، وبقى أسيرها من تلك الساعة، لكن وجدانه وكتاباته بقيا مفعمين بتأثيرات تراثية متجددة. وعبر مسيرته النشطة، قدم أكثر من 50 كتابا، كان أولها «أوراق شاب عاش ألف عام»، التى تكفلت بتقديمه لجمهور الأدب كاتبا واثق الخطي, حتى توجتها «الزينى بركات». ومن يقرأ أعماله يسمع هسيس التراث فيها، ويدرك تمثله لغة الكُتَّاب والمتصوفة القدامى ليعبَّرعن واقعنا الجديد،ما أكسبه صيغة فنية خاصة به،لأن الكتابة التاريخية من جانب تكون أدق فى التعبير عن زمن حال معيش،وآمن فى الحديث عن القمع، كما يبدو فى روايته ذائعة الصيت «الزينى بركات»، التى استلهمها من كتابات المؤرخ الشهير «ابن إياس» وحاول أن يتماهى السرد فيها مع خطاب «ابن إياس»، وزاوج فيها جماليات الفصحى والعامية المصرية ببلاغتها المعروفة،للإيهام بأن النص قديم، وللتعمية على فكرة الإسقاط على الواقع كحيلة فنية. لهذا رأى الغيطانى أن التاريخ تيار متصل، خاصة فى الإبداع، وأن الألف سنة الماضية فى التراث العربى ازدحمت بعلامات إبداعية كبري، مثل «ألف ليلة وليلة»، وإبداعات الجاحظ ، والتوحيدي، والمعرى، وغيرها من الكتابات المهمة، وكلها تثبت أن الإبداع العربى كان له السبق على الكتابة الأوروبية، التى يرى الكثرة أنها الأسبق، وبجانب هذا يرى أن التراث الإنسانى ملك للجميع، وأن الخصوصية لا تقصى إبداعات الآخرين،وفى الوقت نفسه تظل لكل ثقافة منطلقاتها. فى كتابه «التجليات الغيطانية»، رصد تفاصيل رحلة والده من الصعيد إلى القاهرة وحياته فيها، حيث كان يريد التعلم فى الأزهر، وأودع مبلغا من المال لدى أحد أقاربه لينفق منه على تعليمه، لكن ذلك القريب استولى على المال، فاشتغل والده فى أعمال شاقة، وحين تزوج وأنجب أولاده قرر أن يجنبهم ما كابده من متاعب، وكانت حكايات الوالد أولى بذور تعلقه بالأدب، وفى آخرحياة والده انتقل للعيش فى جهينة مرة أخري، وتحول إلى ما يشبه الأسطورة هناك، حيث بات حكيم القوم، وذاكرة القبيلة، والكبير فى فض المنازعات، وإذا تصدر مجلسا يسيطرعليه بالحكي، وكل حكاية تنتهى بحكمة، وكان يمتلك ميراثا كبيرا من الأمثال والمأثورات وأقوال الصوفية،وكانت علاقته بالأولياء عميقة، وورث عنه ابنه حب الحسين، وظلت «رائحة سجاد الحسين تسكن أنفه» إلى آخر عمره، وجاءت وفاة الوالد خاطفة وبلا مقدمات، بأزمة قلبية مفاجئة، قبل أن يتمكن جمال من أن يحقق له أمنيته بالحج إلى بيت الله، التى أفصح عنها أمامه عدة مرات». كانت وفاة والده مدعاة لغوصه فى أدبيات التصوف وفكرابن عربى والنفرى والتراث العربى عموماً، وتعمق الغيطانى فى الأسئلة الوجودية ومحاولة فك رموز الدنيا التى حيَّرت الأسبقين، بعدما رحل الأب قبل أن تعطيه الحياة» فرصة لرد الجميل، «لذا اعتبرت «التجليات» أطول مرثية فى الأدب العربي،وبلا تخطيط جاءت لغتها مشحونة بالتراث الصوفي، وسير الأولياء والمشايخ، وساعده «ابن عربى» على تجاوز محنة فقد أبيه،وتخطى «أعمق حزن» مر به فى حياته، واستخلاص معانٍ سامية من مخزونه الوجدانى فى أعماله الإبداعية. يقول «ابن عربى»: «الإنسان يسافر مع الأنفاس، من نفس إلى نفس، ومن دقة قلب إلى أخرى»، وكذلك المبدع «فى حالة سفر دائمة»، فى المكان،وداخل الذات، كما ظهر فى «هاتف المغيب»، حين تقابل «جمال بن عبد الله» و«أحمد بن عبد الله»، القعيد الذى لم يبارح مكانه، والآخر الذى قضى عمره فى الترحال بين البلاد، ليصلا فى النهاية إلى ذات النتائج. وحين خضع الغيطانى لجراحةالقلب المفتوح فى 1996، أعانته الصوفية مجددا على تخطى مخاطر الجراحة، وتبعاتها، وفى مراوحته بين الغيبوبة والاستفاقة، خايله هاتف بين اليقظة والنوم. ولم يكن ذلك الهاتف ضربا من الغيب، بل سيرة متكررة فى التراث الشعبى وخاصة فى الصعيد، حيث يقولون «فلان جاء له هاتف وطفش». كتب فى «هاتف المغيب»: «يقول أحمد بن عبدالله إنه لا يذكر أمرا ذا جلل قبل بزوغ الهاتف وسماع نبرة، كأن كل ما سبق الهاتف لم يكن, مع أنه اجتازه بحضوره الجسمانى». كان فى مطلع فتوته وبداية غايته عندما تلقى الأمر ممن لا يمكن رؤيته أو فهم كنهه أو إدراك سره. وهى حالة نفسية عاشها الغيطاني، وتجسدت له فيما يشبه الرؤى أكثر من مرة،.