الغيطاني سينتصر علي محنته.. وعسي أن تكون رحلته الحالية مجرد مهمة قصيرة لغَسل القلب وتطهيره سبق أن تنبأ بها في كتاب «التجليات»!!.. الكتابة عن الغيطاني الاستثنائي تَلزَمُها شجاعة استثنائية.. فمن الصعوبة بمكان أن تكتبَ عن سيد الكتابة وكاهنها الاعظم؟!!..لولا أنني عرفتُهُ كصديق ورافقته في رحلات كثيرة، لما صَدَقّتُ أنه بشر مثلنا.. يمشي علي الأرض ويشاطرنا الماء والزاد!!.. لستُ ناقداً متخصصاً ولكني أتصور أن الغيطاني شخصان في واحد.. أولهما ذلك الروائي المُبدِع الذي نحت لُغَةً خاصة به في السرد والحكي والمُغرَم حتي تخوم الجنون بالتاريخ والفلسفة والتصوف والعمارة المصرية في مختلف تجلياتها الفرعونية والقبطية والإسلامية، وبالموسيقي والفن التشكيلي والرحلات وحارات وأزقة القاهرة الفاطمية حيث ترعرع وشب في حي الجمالية الأشهر..والآخر هو الفيلسوف المتصوف المتيم حتي الوَلَه بشيخيه ابن إياس ومحيي الدين بن عربي وغيرهما من أعلام التأريخ والصوفية.. تأثر الغيطاني إلي حد بعيد بابن إياس وعشق لغته والتقط من موسوعته «بدائع الزهور في وقائع الدهور» شخصية بركات بن موسي التي بني عليها رائعته «الزيني بركات» التي كانت ومازالت جديرة بجائزة نوبل للآداب لولا الهوي والغرض!!.. برع الغيطاني باقتدار في تصوير فساد وقهر الدولة البوليسية التي تحَكَمَ فيها البصاصون وغِلمانهم.. إنها دولة فساد داخل الدولة أنشأها «بركات بن موسي» بعد أن وَلّْاه السلطان الغوري منصب الحِسبة وخلع عليه لقب «الزيني».. وكما هو الحال في كل العصور كانت الدولة البوليسية سبباً رئيساً في انهيار حكم المماليك علي يد الاحتلال العثماني البغيض الذي نهب مصر وعاد بها قروناً إلي الوراء!!.. وَلَعُ الغيطاني بالتاريخ الوسيط لا يدانيه إلا افتتانه بالتاريخ الفرعوني.. ومَن لم يُسعِده الحظ بأن يكون الغيطاني مرشده في زيارة القاهرة الفاطمية ومعابد وآثار المصريين القدماء فقد فاته الكثير.. كنتُ محظوظاً برفقته في زيارة معابد قنا وسوهاج، وكان فيض علمه بآثار الأقدمين زاخراً ورائعاً ومُعجِزاً.. نعم.. الغيطاني الحاضر دائماً موسوعة علمية وأدبية تمشي علي قدمين ولم يَنَل إنتاجه الأدبي الفريد ما يستحقه من نقد ودراسات في مصر حتي الآن.. وذلك داء عضال يسيطر علي حياتنا ويَحُولُ دون تقدير وتكريم قمم ومنارات أدبية وثقافية سامقة إلا عندما تغيب عنا أو نوشك أن نفقدها.. وأنا هنا أتحدث بشكل عام ولا أقصد الغيطاني بالذات فهو عَصِيٌ علي الغياب حتي لو داهمته الغيبوبة.. وربما كان الأديب الوحيد المسكون بفكرة الزمن ورحلة الكون والوجود من العدم إلي الأبدية وكانت كل تجلياته وإشراقاته تصّور الحياة كبرزخ أو نقطة عبور.. فضلاً عن تجارب الغيطاني الشخصية مع عمليات القلب المفتوح وتجربة الخضوع للتخدير والغياب المؤقت عن الوعي التي أبدع في تسجيلها في التجليات وغيرها.. ولدي شعور أو رجاء بأن الغيطاني سينتصر علي محنته وسيقوم من نومته الحالية ليقص علينا مشاهداته فيما وراء الوعي.. وعسي أن تكون رحلته الحالية مجرد مهمة قصيرة لغَسل القلب وتطهيره سبق أن تنبأ بها في كتاب التجليات عندما قال « رأيتُ شيخي محيي الدين بن عربي يقبض علي قلبي في كفه اليمني.. يفك المنديل المنسوج من الضوء الغروبي والموشي بظلال النجوم.. يبسط راحته فيفك أسره.. يسعي قلبي.. نعم.. يمشي قلبي أنا المنتزع من وطنه الذي هو صدري..»..إلي قوله «..هنا تناولت رئيسة الديوان قلبي كالوليد وعلي مهل غسلته في وعاء الحنين ثم غمسته في وعاء الشوق ثم الآمال ثم الرجاء...»!!.. وفي موضع آخر يقول الغيطاني «تبدو فكرة الأبدية وكأنها الهاجس الأكبر الذي شغلني.. إنها اللغز الرهيب الذي سنغادر العالم بدون فهمه.. هذا الهاجس لا يمكن مقاومته إلا بالكتابة».. نعم يا صديقي.. ستنتصر بكتاباتك علي كل الهواجس وستنهض لأن النوم لا يليق بعشاق الحياة!!.