للمعتمرين.. تعرف على سعر الريال السعودي اليوم    30 غارة على الضاحية الجنوبية ببيروت في أعنف ليلة منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على لبنان    مدحت شلبي يكشف مصير " زيزو" في نادي الزمالك    احتفالات كبرى بمطار البالون الطائر في الأقصر بذكرى نصر أكتوبر ال51 (بث مباشر)    ارتفاع سعر الذهب اليوم.. عيار 21 يسجل 3578 جنيهاً    والد بلعيد: الأهلي لم يجبرنا على وكيل معين.. وأمير توفيق محترم    أسعار اللحوم والدواجن والخضروات والفواكه اليوم الأحد 6 أكتوبر    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الأحد 6-10-2024    ارتفاع عدد قتلى إعصار «هيلين» في الولايات المتحدة إلى أكثر من 227 شخصًا    الكويت.. سحب جنسية 63 شخصا بينهم مزدوجان متهمان في قضية سرقة القرن العراقية    تبون يثني على العلاقات بين الجزائر وموسكو    نشرة ال«توك شو» من «المصري اليوم»..هل الدعم «النقدي» أفضل من «العيني»؟.. عالية المهدي تجيب.. اتحاد الدواجن يكشف سبب ارتفاع أسعار البيض    عاجل.. إسرائيل تعلن الاستعداد لضرب إيران.. و«الخارجية الأمريكية»: لا ضمانات لاستثناء المنشآت النووية.. وقائد عسكري أمريكي يزور المنطقة    شوقي غريب يكشف لأول مرة سبب فشل مفاوضاته مع الإسماعيلي    مدرب مصر السابق: كنت أتمنى ضم نجم الزمالك للمنتخب    ترتيب الدوري الإنجليزي قبل مباريات اليوم الأحد    لماذا تأخر حزب الله في كشف حقيقة اغتيال هاشم صفي الدين في لبنان؟    «Take My Breathe».. أفضل فيلم عربي طويل بمهرجان الإسكندرية السينمائي    برج الميزان.. حظك اليوم الأحد 6 أكتوبر: جدد أفكارك    برج الأسد.. حظك اليوم الأحد 6 أكتوبر: لا تكن أنانيا    بعد شائعات وفاته.. جورج قرداحي يوجه رساله شديدة اللهجة    ملك إسبانيا: الحرب في غزة جلبت دمارا لا يوصف ويجب أن تنتهي    انخفاض ملحوظ في درجات الحرارة اليوم وتحذيرات من الشبورة المائية على الطرق السريعة    «مفيش خروج من البيت».. محمد رمضان يفاجئ لاعبي الأهلي بقرارات جديدة نارية (تفاصيل)    أحمد السقا يمازح علاء مرسي ويبعده عن ابنته ليرقص معها (فيديو)    رسميًا.. رابط منهج العلوم رابعة ابتدائي pdf والخريطة الزمنية للشرح    من دعاء النبي | اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطأي وعمدي    44 ألف سيارة.. الحكومة تعلن مفاجأة جديدة بشأن ذوي الهمم    في ذكرى انتصارات أكتوبر.. كيف خدع «السادات» إسرائيل؟    ضبط تشكيل عصابي تخصص في سرقة المساكن بمنطقة حدائق القبة    تفسير آية | تعرف على معنى كلمات «سورة الفلق»    لتجنب التسمم الغذائي.. الخطوات الصحيحة لتنظيف وغسل «الفراخ»    شعبة الدواء تكشف عن سبب ظهور السوق السوداء    توقعات الفلك وحظك اليوم.. برج الحوت الأحد 6 أكتوبر    «مصر للطيران» تنقل 286 مصريًا عالقين في لبنان إلى أرض الوطن.. صور    الأمن العام يداهم بؤرة إجرامية.. ومصرع 3 عناصر شديدة الخطورة بقنا    مصرع وإصابة 3 أطفال في تصادم دراجة بخارية وسيارة ملاكي بقنا    الزمالك يقترب من ضم مدافع منتخب مصر (تفاصيل)    يقي من الخرف والألزهايمر.. 5 فوائد صحية لتناول البيض    البيع تم قبل شهور.. مصدر مقرب يكشف مصير مطعم صبحي كابر    حدث في منتصف الليل| حقيقة تعرض البلاد لشتاء قارس.. وأسباب ارتفاع أسعار الدواجن    استئصال ورم كبير من قلب مريضة بمستشفى جامعة أسيوط    رابع مُنتج للمشروبات في العالم يبحث التوسع في السوق المصرية    كنيسة الروم بلبنان لأهل الجنوب: نحن بحاجة للتمسك بأرض أجدادنا لا تتركوا أرضكم ودياركم    تعيينات وتنقلات جديدة للكهنة في مطرانية الأردن للروم الأرثوذكس    عرض «فرص الاستثمار» على 350 شركة فرنسية    «المضل» في بني سويف تضم «مزامير» داود وكنوزًا زاخرة    وائل جسار: عايشين حالة رعب وخوف في لبنان.. ودعم مصر مش جديد علينا    « عز يرتفع والاستثماري يتراجع».. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 6 أكتوبر 2024    نائبا رئيس الوزراء أمام «النواب» غدًا    مصرع طفلة وشقيقها سقطا من الطابق السادس أثناء اللهو ب15 مايو    جوجل والجنيه.. دعم ل«الصناعة المحلية» أم عقاب لصنّاع المحتوى؟    إعلام لبناني: صعوبات في وصول الإطفاء والدفاع المدني لأماكن الغارات الإسرائيلية    أحمد عبدالحليم: الزمالك استحق لقب السوبر الإفريقي و«الجماهير من حقها الفرحة»    نقيب الأطباء: الطبيب في مصر متهم حتى تثبت براءته عكس كل المهن    رمضان عبدالمعز: الاحتفال بنصر أكتوبر مهم لأنه أمر إلهي    رئيس جامعة الأزهر: الله أعطى سيدنا النبي اسمين من أسمائه الحسنى    إشراقة شمس يوم جديد بكفر الشيخ.. اللهم عافنا واعف عنا وأحسن خاتمتنا.. فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عام هجرى جديد.. ثانى اثنين في الغار
نشر في الأهرام اليومي يوم 16 - 10 - 2015

من له مثل قدره ومنزلته؟! من ذا الذى كُتب له من دون سائر البشر أن يلامس خير البشر وهما على قيد الحياة، وبعدما غيبهما القبر؟! من غيره الذى رقد المصطفي في حجره ونام، وعندما مات النبي أتاهم الصوت يقول ضمّوا الحبيب إلى الحبيب فدفن الصدّيق ورأسه عند كتف خاتم الرسل أجمعين.. ذاك الذي رأى في المنام وقت تجارته فى الشام أن كلا من الشمس والقمر يهبطان إلي أحضانه فيضمهما إلى صدره ويسبل عليهما رداءه لهفة وحنانا، ففسر له راهب الدير حلمه برسالة محمد نبي آخر الزمان الذى سيدخل دينه ويتبعه ليغدو وزيره وخليفته من بعده.. ويعود أبوبكر لمكة فلا يصبر ساعة عن رؤية النبى صلي الله عليه وسلم الذى يقول له يوماً: «كل يوم تجىء إلىّ وتجلس معى ولا تُسلم؟! فقال أبوبكر: إن كنت نبياً فلابد لك من معجزة، فيرد النبي: «أما يكفيك المعجزة التى رأيتها بالشام وفسّرها لك الراهب» فما أن سمع بما كان سرًا في الأعماق حتى قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.. وأسلم على يده عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبدالرحمن بن عوف..
عبدالله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيّم بن مرّة بن كعب بن لؤى بن غالب القرشى التيمى.. الخليفة الأول الذى عُرف بأسماء كثيرة أشهرها أبوبكر، والصدّيق، وعتيق، والصاحب، والأتقى، والأواه.. وكان «الصدِّيق» لكثرة تصديقه للنبي، و«العتيق» لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم له «أبشر فأنت عتيق الله من النار» وقيل لأنه كان صاحب الجودة في كل شيء وقديماً في فعل الخير، وقيل إن أمه كان لا يعيش لها ولد، فلما أنجبته استقبلت به الكعبة قائلة: اللهم إن هذا عتيقك من الموت فهبه لىّ.. وجاء لقبه ب«الصاحب» من قول الله عزّ وجل في القرآن الكريم: «إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا»، وجاء لقبه «الأتقى» في قوله تعالي من سورة الليل حول المعذبين في الله الذين أعتقهم أبوبكر «وسيجنبها الأتقى»، أما «الأواه» فيدل علي شدة خشيته من الله وقد جاء في الطبقات الكبرى القول: «كان أبوبكر يسمى بالأواه لرأفته ورحمته».. وهو الذى وُلد للسنة الثانية أو الثالثة من عام الفيل، أى أنه أصغر من النبى عليه السلام بنحو عامين، وقد عاش والده «أبوقحافة» حتى رأى ابنه خليفة، وكان كفيفاً جالساً على باب داره بمكة يوم أقبل أبوبكر إليها معتمرًا بعد مبايعته بالخلافة، فقيّل له: هذا ابنك، فنهض يتلقاه، ورآه ابنه يهم بالنهوض فهبط عن راحلته وهى واقفة قبل أن ينيخها وهو يقول: لا يا أبت لا لا تقم لابنك! ثم لاقاه ليحتضنه ويُقبّله بين عينيه.. وسمع الأب ابنه الخليفة يحادث أبا سفيان بحّدة في أحد الأمور والأخير يحاول استرضاءه، فسأل أبوقحافة: علي من يصيح ابنى؟ فقيل له: على أبى سفيان! فدنا من الابن يهمس له بغبطة أكثر منها بالإنكار: أعلى أبي سفيان تصيح وترفع صوتك يا عتيق؟ لقد عدوت طورك وجزت مقدارك! فابتسم أبوبكر والصحابة، وقال لأبيه الراضى في إنكاره: يا أبت إن الله رفع بالإسلام قوماً وأذل به آخرين.. ويهاجر الابن مع النبي للمدينة ومعه ماله كله وكان خمسة آلاف درهم فيُقبل الجد الضرير علي أحفاده يطمئن علي حالهم وما ترك لهم ابنه من المال وهو الذى ينفق ماله لإعتاق الأرقاء الذين عذّبهم المشركون فكان يقول له: لو أنك فعلت ما فعلت في رجال ذوى بأس يقومون دونك ويدافعون عنك فيقول له الابن: يا أبت إنى أريد ما عند الله فيسأل عما إذا كان هناك مال لديهم فتطمئنه أسماء بأن تأخذ يد الجد لتضعها فوق حجارة كومتها وغطتها برداء علي أنها المال الذى تركه الأب فيسكن قلب الجد الضرير.. وأما أم الصديق فهي سلمي بنت صخر بن عمرو بن سعد بن تيّم وكنيتها «أم الخير» وقد أخذها أبوبكر إلى النبى لتسلم على يديه وهى بين الحياة والموت، وجاءه بأبيه بعد فتح مكة ليسلم علي يديه وقد جلّله الشيّب، وعن زوجاته فقد تزوج أبوبكر بأربعة أنجبن له ثلاثة ذكور وثلاث إناث هن: قتيلة بنت بن جابر بن مالك والدة عبدالله وأسماء وكان أبوبكر قد طلقها فى الجاهلية وقد جاءت بهدايا لابنتها أسماء فى المدينة فأبت قبولها أو أن تدخلها بيتها، وعندما أرسلت لشقيقتها عائشة لتسأل الرسول قال: «لتدخلها ولتَقبل هديتها»، وأنزل الله قوله تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين».. والزوجة الثانية هى «أم رومان» وكان قد مات عنها زوجها الحارث بن سخبره فتزوجها أبوبكر وأسلمت وهاجرت للمدينة وهى والدة عبدالرحمن وعائشة، وتوفيت في عهد رسول الله بالمدينة في العام السادس الهجرى، والزوجة الثالثة «أسماء بنت عميس» من المهاجرات الأوائل وهاجر بها زوجها جعفر بن أبى طالب إلى الحبشة وعادا ليستشهد يوم «مؤتة» وتزوجها الصدّيق لتلد له محمدًا.. والزوجة الرابعة «حبيبة بنت أبى زهير» التي ولدت لأبى بكر ابنته «أم كلثوم» بعد وفاته.. أما أولاده فهم «عبدالرحمن» و«عبدالله» و«محمد» و«أسماء» ذات النطاقين التى بلغت مائة سنة ولم يسقط لها سن وروى لها عن نبى الله ستة وخمسون حديثاً، وتوفيت بمكة عام 73ه بعدما رفض الحَجاج إنزال جسد ابنها الوحيد المصلوب، استرأفته قائلة: «أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟!».. وعائشة أم المؤمنين حبيبة حبيب الله التي روت عنه 2210 أحاديث وتوفيت عام 57ه، وأم كلثوم التي تزوجها طلحة بن عبيدالله وقُتل عنها يوم الجمل..
كان الصدّيق ثانى اثنين في الإسلام، وثانى اثنين في غار الهجرة، وثانى اثنين في الظلّة التي أوى إليها النبى يوم بدر الذى لا يوم مثله، وثانى اثنين في كل وقعة من الوقعات بين المسلمين والمشركين، وأقرب صاحب إلي النبى في شدة الإسلام ورخائه، وفى سرّه وجهره، وكان عدد المسلمين دون الأربعين يوم أشار علي النبي أن يجتمعوا فى المسجد ويجهروا بالدعاء، فلما وقف بينهم يدعو إلي الله ورسوله وثب عليه المشركون يوسعونهم إهانة مع الضرب والإيذاء، وتصدى له عُتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين حتى خفي علي الناظر إليه مكان أنفه وعينيه ثم حملوه فى ثوب إلي بيته وما يشكّون في موته، وأحاطوه يكلمونه إلي أن أفاق وأجاب ليسأل أمه عن رسول الله فقالت: ما أعلم بصاحبك، فطلب منها الذهاب إلي بنت الخطاب لسؤالها فأنكرت الأخرى مرات معرفتها بمكانه خوفاً عليه حتى صرحت بأنه في دار الأرقم، ولم يهدأ أبوبكر إلا بالزحف إلى رسول الله لينكب علي صديقه وصفيه يُقبله وهو الذي استطاع أن يذود عنه العائدين عليه، وإنه ليراهم آخذين بتلابيبه فيدخل بينهم وبينه صائحاً بهم «ويلكم أتقتلون رجلا يقول ربى الله» فينصرفون عن النبى إليه يضربونه ويجذبونه من شعره فلا يدعونه إلا وهو صديع بعدما شجوا رأسه.. وتشتد قريش في أذى المسلمين فمنهم من هاجر للحبشة مرة أو مرتين فرارًا بدينه، ثم كانت الهجرة إلى المدينة، فاستأذن أبوبكر النبي في أن يهاجر بدوره فقال له: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً».. وتروى أم المؤمنين عائشة عن هجرة زوجها وأبيها بقولها: كان رسول الله يأتى بيت أبى بكر إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن له فيه بالهجرة فأتانا بالهاجرة نصف النهار في ساعة لا يأتى فيها فقال أبوبكر: هذه الساعة إلا لأمر حدث، فلما دخل تأخر له أبوبكر عن سريره فجلس وليس عندنا إلا أنا وأختى أسماء فقال: «أخرج من عندك» فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاى؟ وما ذاك فداك أبى وأمى! فقال: إنه قد أذن لى في الخروج والهجرة»، فقال أبوبكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: «إنها الصحبة»، قالت: فوالله ما شعرت قط قبل اليوم أحدًا يبكى من الفرح حتى رأيت أبابكر يبكي يومئذ وكأنه يتلقى البشارة بالسلامة، ثم قال: يا نبي الله هاتان راحلتان أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبدالله بن أريقط وكان مشركاً ليدلهما علي الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما يرعاهما لميعادهما».. و..يتوقف الرسول عند خروجه من مكة إلى المدينة في سوق مكة ليقول: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي الله، ولولا إنى أخرجت منك ما خرجت».. ولما انتهيا إلي الغار ليلا دخل أبوبكر قبل النبى لينظر فيما إذا كان هناك أذى ليقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجعل يتلمس الغار فى ظلمة الليل فوجد ثقوبا متعددة فصار يقطع ثوبه ويسد بها الثقوب، وبقي ثقب لم يفضل له شىء من الثوب فجلس قريبا منه وسده بعقبه فجعلت الحيات والأفاعى تضربه وتلدغه حتي سقطت دموعه علي وجه النبي الذي كان قد نَامَ علي حجره وكان متجلدًا لا ينطق، وفي الصباح سأله النبي عن ثوبه فأخبره الخبر فدعا له: «اللهم اجعل أبابكر معى في درجتى في الجنة»، ويمكث نبي الله وصاحبه في الغار ثلاث ليالٍ أنبت الله فيها على بابه شجرة حجبته عن عيون الناس، وأرسل حمامتين باضتا على بابه، وأمر الله العنكبوت فنسج في أعلاه، وجاء فتيان قريش معهم سلاحهم لينظر بعضهم فيقول: ادخلوا الغار، فيقول أميّة بن خلف: وما حاجتكم في الغار إن فيه عنكبوتاً أقدم من ميلاد محمد.. ويروى أبوبكر فيما بعد: نظرت إلي أقدام المشركين، فقلت: يارسول الله لو أن أحدهم نظر إلي قدميه لأبصرنا، فقال: «يا أبابكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، وروى أن النبى قال: «اللهم أعم أبصارهم» فعميت عن دخولهم الغار..
وسجل الحق عزّ وجل ذلك في قوله تعالي: «إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروْها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم».. وفي هذه الآية الكريمة دلالة على أفضلية الصدّيق من أنه ثانى اثنين، وأنه صاحبه الوحيد، وأنه صاحبه في الغار، وأنه صاحبه المطلق، وأنه المشفق عليه وذلك في قوله «لا تحزن»، وأنه المشارك للنبى دون الخلق كلهم في الإعانة علي عدوهما «إن الله معنا» وهو بذلك أعلى في المرتبة من المتقين والمحسنين في قوله تعالي «إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون»، فالرابطة هنا لذات الرسول وذات صاحبه دون التقيد بوصف عمل لهما كالتقوى أو الإحسان.
ولم تكن المرة الوحيدة التي أُنزل فيها من الآيات ما جاء بشأن أبى بكر الذى قام بجمع القرآن من المصحف بعد تهيبه، حين أشار به عمر قائلا له: «كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلي الله عليه وسلم» ثم استصوب جمعه لما فيه من خير خاصة وقد مات من مات من حفّاظ القرآن فى حروب الردة وأصبح الخوف علي من بقي منهم أن تأتى عليهم حروب فارس والروم، وانقضت خلافته والقرآن مجموع مفروغ من كتابته في المصاحف كما نقرؤه الآن فقد لقبه القرآن الكريم بلقب «الأتقى» في قوله تعالى: «وسيجنبها الأتقى»، وسبب ذلك أن أبابكر عندما كان يشترى العبيد المسلمين ويعتقهم مثل بلال بقناعة أنه يعتقهم لوجه الله لا يبغى جزاء ولا شكورا فنزلت فيه الآية: «وسيجنبها الأتقى الذى يؤتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تُجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلي ولسوف يرضي»، وأخرج عبدالله بن أبي صميد في تفسيره عن مجاهد قال: لما نزلت (إن الله وملائكته يصلون على النبى) قال أبوبكر: يا رسول الله، ما أنزل الله عليك خيرًا إلا أشركنا فيه، فنزلت هذه الآية (هو الذى يصلي عليكم وملائكته)..
وأبدًا ومحال أن حظى كائن من كان بهذا الكم الكبير من الدر المنثور من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم مثل أبى بكر الصديق ومن بعض ما جاء في الحديث الشريف عنه قوله: «أبوبكر صاحبي ومؤنسى في الغار»، وقوله: «أنت صاحبى على الحوض وصاحبى في الغار»، و«حب أبي بكر وشكره واجب علي أمتى»، و«أبوبكر عتيق في السماء عتيق في الأرض»، و«أبوبكر وعمر بمنزلة السمع والبصر»، و«لولا أبوبكر الصديق لذهب الإسلام»، و«مثل أبى بكر مثل اللبن في الصفاء»، و«مثل أبي بكر كالغيث أينما وقع نفع»، و«الناس كلهم يحاسبون إلا أبابكر»، و«لو كنت متخذًا خليلا حتى ألقى الله لاتخذت أبابكر خليلا ولكنه صاحبى»، وعن أبي هريرة قوله: قال عليه الصلاة والسلام: عُرج بى فما مررت بسماء إلا وجدت فيها اسمى محمد رسول الله وأبوبكر الصديق خلفي»، ويسأل الرسول: «من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبوبكر: أنا، قال فمن تبع منكم جنازة؟ قال أبوبكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبوبكر: أنا، قال: فمن عاد منكم مريضاً؟ قال أبوبكر: أنا، فقال رسول الله: ما اجتمعن في امرئ إلاّ دخل الجنة»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «رحم الله أبابكر.. زوجنى ابنته، وحملنى إلى دار الهجرة، وأعتق بلالا»، «أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتى»، «خصال الخير ثلثمائة وستون فقال أبوبكر: يا رسول الله لى منها شيء؟ قال: كلها فيك، فهنيئا لك يا أبا بكر»، وتسأل حفصة رضي الله عنها رسول الله: إذا أنت مرضت قدّمت أبابكر؟ قال: لست أنا أقدمه، ولكن الله يقدمه»، وقوله: «ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر، إلا أبابكر، ما عتم عنه حين ذكرته، وما تردد فيه»، و«إن عُمر حسنة من حسنات أبي بكر»..
ورغم أنه كان أقرب الصحابة إلي النبى عليه السلام وألزمهم له في نهاره وليله، لكنه لم يرو من الأحاديث النبوية إلا مائة وأربعين حديثاً، أما كلامه فهو عين البلاغة الموزونة المختصرة المفيدة، مثلما قال بعد مبايعته بالخلافة: «إنما أنا متبع ولست بمبتدع»، ومثل قوله: «احرص على الموت توهب لك الحياة»، أو قوله: «أصدق الصدق الأمانة وأكذب الكذب الخيانة»، أو قوله: «الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله»، و«إذا فاتك خير فأدركه وإن أدركك فاسبقه»، و«إذا وعظتهم فأوجز، فإن كثير الكلام يُنسى بعضه بعضا»، و«أَقِلْ من الكلام فإنما لك ما وُعى عنك».
وكان أبوبكر في مواجهة الردة بتارًا حازماً قابلها بأحزم ما تقابل به من مبدئها إلي منتهاها، وعالجها في كل خطوة من خطواتها وكل ناحية من نواحيها، فبادرها بالحزم من صيحتها الأولي، وتعقبها بالحزم يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة حتى أسلمت مقاليدها وثابت إلي قرارها، وكان جزاء المرتدين أن يشهدوا من بأس الخليفة ما يعتبرون به ولا ينسونه مدى الحياة، وأن يفقدوا المال الذى من أجله تبادروا إلي الفتنة واستبقوا إلي العصيان، فاستبيحت ديارهم ومراعيهم وأموالهم ووهبت عطايا للمجاهدين، ولم تأخذ أبوبكر فيهم هوادة بعد إصرارهم على العصيان واعتدائهم بالقتل وإعراضهم عن النصح والإنذار.. استهانة يقابلها بأس، وبخل بمال يقابله ضياع المال، ونفس بنفس، ومجاهدون مخلصون يؤثرون الإيمان علي عروض الدنيا أخذاً بثأرهم من عصاة غادرين يؤثرون عروض الدنيا على الإيمان، وزيادة في الحرص وتوخى الحذر كان أبوبكر يقصى المسلمين الذين تابوا بعد ردة فلا يلحقهم بالجند الموجهين للقتال تحسباً من شائبة اهتزاز اليقين القتالي.. ولعل توجيهاته لخالد بن الوليد قد أفادته كثيرًا حين خرج لحرب المرتدين، فمن كلمات أبى بكر إليه: «إذا دخلت أرض العدو فكن بعيدا عن الحملة فإنى لا آمن عليك الجولة، واستظهر بأفراد، وسر بالأدلاء، وقدّم أمامك الطلائع ترتد لك المنازل، واحرص علي الموت توهب لك الحياة، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه»، ومن وصيته ليزيد بن أبي سفيان في فتوح الشام: «..وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم وأقلل مكوثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، ولا تريثهم فيروا خللك ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك، وامنع كل من قِبلك من محادثتهم، وكن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك كعلانيتك فيختلط أمرك.. وأكثر حدسك، وفرقهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محترسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل واجعل النوبة الأولي أطول من الأخيرة فإنها أيسرها لقربها من النهار، وقد نبأنا الله أن الفئة القليلة مما تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وأنا مع ذلك ممدكم بالرجال في أثر الرجال حتى تكتفوا».. ويشيع أبوبكر جيش أسامة فلا ينسى أن يوصيه بالضعفاء وهو ذاهب للقتال: «لا تخونوا ولا تغلو، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا رضيعا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكله، وسوف تمرُّون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون علي قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منه شيئا بعد شيء فاذكروا الله عليها».
ومن شواهد إسلام الصديق أنه كره التمثيل بألد الأعداء في ميدان القتال، فلما بعث إليه عمرو بن العاص برأس «بنان» بطريق الشام أنكر فعله أشد الإنكار، ولم يخفف من إنكاره قول عقبة بن عامر له: «إنهم يصنعون ذلك بنا وأكثر»، بل قال: أيستنون بفارس والروم؟ لا يحمل إليّ رأس قط، إنما يكفي الكتاب والخبر..».
ونبحث عن سمات وملامح أبي بكر فنجده كما جاء في السرد التاريخى أبيض تخالطه صُفره، حسن القامة، نحيفاً خفيف العارضين، أخبأ (ميل في الظهر) لا يستمسك إزاره يسترخى عن حقويه (الحقو بمعنى الخصر)، رقيقا معروق الوجه، غائر العينين، أقنى، حمش الساقين (دقيق الساقين)، ناتئ الجبهة، عارى الأشاجع (مفاصل الأصابع)، يخضب لحيته بالحناء.. وكان متذوقا للشعر ولا يقرضه مثل ابنه عبدالله صاحب الدور العظيم في الهجرة، فقد كان يبقي النهار بين أهل مكة يسمع أخبارهم ثم يتسلل في الليل إلي الغار لينقل هذه الأخبار للرسول وأبيه، وقد أصيب بسهم يوم الطائف، وكانت فيه شجاعة وأدب ورقة، وله شعر عاطفي قال بعضه في زوجته المطلقة «عاتكة بنت زيد» وحكايته معها أنه افتتن بجمالها مما شغله عن شئونه فنصحه أبوه بطلاقها فسرحها، لكنه ظل نادما حزيناً هائماً بعد فراقها ومن شعره فيها قوله:
أعاتك، لا أنساك ما ذر شارق
وما لاحَ نجم فى السماء محلق
أعاتك، قلبى كل يوم وليلة
لديك بما تُخفي النفوس معلق
لها خُلق جزل ورأى ومنصب
وخَلق سوى في الحياء مصدق
ولم أرَ مثلى طلّق اليوم مثلها
ولا مثلها في غير شىء تُطلّق
فأثر حاله وأشعاره في أبيه فأمره بمراجعتها فسرعان ما لبي الأوامر..
ويتقولون بتأخر على بن أبى طالب عن مبايعة الصديق رضي الله عنهما، وكذلك تأخر الزبير بن العوام، ويأتى السبب فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن عليّا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله، فقد كان انشغال جماعة من المهاجرين وعلي رأسهم علىّ بأمر جهاز رسول الله، من تغسيل وتكفين، وقد بايع الزبير وعليّ أبا بكر في اليوم التالى لوفاة الرسول وهو يوم الثلاثاء الذى صعدَ فيه أبوبكر المنبر ونظر في وجوه القوم فلم ير الزبير بن العوام فدعاه فجاء، فقال له أبوبكر: يا ابن عمة الرسول وحواريه، أتريد أن تشق عصا المسلمين؟» فقال الزبير: «لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله»، وقام فبايع أبا بكر، وفي رواية حبيب بن أبى ثابت قوله: وكان علىّ بن أبى طالب فى بيته، فأتاه رجل مهرولا قائلا: «قد جلس أبوبكر للبيعة»، فخرج علىّ إلي المسجد في قميص له، ما عليه إزار ولا رداء وهو متعجل، كراهة أن يبطئ عن البيعة، فبايع أبابكر ثم جلس، وبعث في ردائه، فجاءوه به فلبسه فوق قميصه... ولا تمض أكثر من ثلاث سنوات على خلافة أبي بكر حتى يقع في براثن المرض ليلقي ربه في الثانى والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاثة عشرة للهجرة وهو في الثالثة والستين وترتج المدينة لوفاة الصديق الذى تقوم بغسله تبعاً لوصيته زوجه أسماء بنت عميس ويقبل علىّ بن أبى طالب مسرعاً باكياً راثياً بقوله: «كنت إلف رسول الله وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلاما وأخلصهم يقينا، وأخوفهم الله، وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل، وأحوطهم علي رسول الله، وأحدبهم على الإسلام، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هدياً، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم عنده، وأكرمهم عليه.. صدّقت رسول الله صلي الله عليه وسلم حين كذبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر، سمّاك الله في تنزيله صدّيقاً فقال: «والذى جاء بالصدق وصدّق به أولئك هم المتقون»، واسيته حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة، ثانى اثنين إذ هُما في الغار، والمنزّل عليه السكينة ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وأمته، أحسن الخلافة حين ارتدوا، فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبى، ونهضت حين وهن أصحابه، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله إذ وهنوا، متواضعاً في نفسك عظيماً عند الله تعالي.. شأنك الحق والصدق والرفق، وسبقت والله سبقاً بعيدًا، وفزت بالخير فوزًا مبيناً..
وتروى أم المؤمنين عائشة خبر وفاة أبيها بقولها: «أول ما بدأ مرض أبى بكر، أنه اغتسل، وكان يوماً باردًا فحمَّ (أصابته الحمى) خمسة عشر يوماً، لا يخرج للصلاة ويأمر عمر بها وكان عثمان ألزم الصحابة له في مرضه، وقال المريض لنا: انظروا ماذا زاد في مالى منذ دخلت في الإمارة، فابعثوا به إلى الخليفة بعدى، فنظرنا فإذا بعبد نوبي وبعير، فبعثنا بهما إلى عمر الذى بكي قائلا: رحمة الله على أبى بكر، لقد أتعبنا بعده تعباً شديداً».

[email protected]
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.