واقع المشهد المصري أمامنا هذه الأيام, يثير الحيرة والقلق, يتساءل الإنسان: ما هذا الخلط بين السياسة والدين والاقتصاد, وما هذا الصراع المحموم علي السلطة والمال والجاه؟ أين الحلم المصري بالعيش, والحرية, والكرامة, ولماذا انصرف الكثيرون إلي البحث عن نفوذ أو ثراء؟ وهل تغير العقل المصري بعد الثورة بل هل تغير العقل العربي, ما القضية الأساسية الجوهرية؟ أزعم وقد أكون علي خطأ أن مصر باتت تبحث عن ذاتها, عن موقعها العربي, والإنساني, وإن المصريين في حيرة من أمرهم, لقد تسلموا مصر لأول مرة منذ سبعة آلاف سنة دون قائد قوي حازم ودون زعيم يلتف حوله الناس, وأنهم استيقظوا علي صخب الثورة وسالت الدماء والدموع, وعادت مصر إلي المصريين, ولكن لم يعد المصريون إلي مصر حتي الآن, ما زال كل فريق منطويا علي فكره أو رؤاه, بل مازالت غربة قاسية جافة تفصل بين مصر, الوطن الخالد, العظيم وبين أبنائه الذين فوجئوا بأنهم أصحاب هذا الوطن والمسئولون عنه اليوم, وأزعم أن القضية الآن ليست سياسية أو اقتصادية أو دينية أو اجتماعية بل هي قضية غياب ثقافة مصرية ثقافة هي القاعدة للتضامن ولم الشمل هي الحد الأدني ليعود المصريون إلي مصر كما عادت إليهم. هذا العالم الذي نعيش فيه, وهذا الوطن الذي يعيش فينا, ما الذي يحركهما ويدفعهما إلي التقدم أو يشدهما إلي التخلف, أو قل ببساطة ما هي القوة الخفية التي لا تري, تدير حركة الحياة, وقد تشعل الصراع ولا تبدو علي السطح أنها قوة الفكر ونسيج الثقافة التي تتغلغل في كيان الفرد والأسرة والجماعة, فالإنسان يحيا وفق أفكاره ويسلك تبعا لثقافته, بل لعله يحلم بما يدور في عقله الواعي أو عقله الباطن, والثقافة التي لها ينابيع متنوعة تختلط في كيان الإنسان لتمده برؤية أو تدفعه إلي سبيل وقد تسجنه في نفق ضيق من الأفكار يظل مدي حياته أسيرا لفكرة أو مذهب, لا يستطيع الفكاك من قيوده لأنه أحاط نفسه بسياج وسد منافذ الثقافات الأخري, وظن أنه يمتلك الحقيقة مطلقة كاملة, بالرغم من أن الحقيقة الوحيدة التي يؤمن بها البشر, لا يختلف حولها اثنان هي حقيقة الموت, وما عدا ذلك كله موضوع حوار ونقاش واختلاف. وينابيع الثقافة متعددة, فالدين ينبوع للثقافة يسقي ضمير الإنسان بالقيم السامية ويروض غرائزه ويسكب في وجدانه أمنا وسلاما, ولكنه ينبوع واحد برغم أهميته وعمق تأثيره, والتقاليد الموروثة بما فيها حقيقة وأسطورة, نبع آخر لثقافة الإنسان وأنك لتعجب أشد العجب حين تري شعوبا تتمسك بتقاليد وطقوس وعادات ثبت فسادها وبطلانها, وبرغم ذلك لاتزال حية في وجدان تلك الشعوب تؤمن بها وتقدسها, ذلك لأن في أعماق الإنسان حنينا للماضي ورغبة في الهروب من الواقع, كما أن عنده طموحا يتخطي الزمان والمكان, لا يروي عطشه مال ولا تشبع نزواته لذة, فالإنسان أكبر من إنسان انه يحمل سرا يتفوق به عن سائر الكائنات المخلوقة, انه كائن عجيب, قدماه علي الأرض وروحه تنشد الخلود والارتقاء, وينبوع آخر من ينابيع الثقافة هو العلم ومنذ بداية عصر النهضة العلمية بعد سقوط العصور الوسطي في القرن الخامس عشر, استيقظت البشرية علي عالم جديد, أهم ملامحه أن العلم بفروعه المتنوعة وبأسراره التي يتوالي فك طلاسمها هو مستقبل البشرية, وهو الذي يرسم ويضع أسس مستقبل الشعوب, قل لي ماذا يتعلم أبناء الأمة لندرك ما مصيرها ومستقبلها, ولا تناقض أو خصومة بين العلم وبين مصادر الثقافة كالدين والتقاليد والخبرات الإنسانية, جميعها تصوغ فكر الفرد والجماعة والأمم... وأزعم أن المشهد الصاخب للمجتمع المصري في وجهه السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الديني, ليس قضية سياسية بل هو قضية ثقافية, قد أدرك البعض الفارق الشاسع في البعد الاقتصادي بين من يملك الكثير لا يدري ماذا يصنع به وبين من لا يملك قوته أو سكنه أو ثيابه, بين غني فاحش وفقر مدقع, ولكن هل أدرك البعض الفرق الشاسع والأخطر بين من يملك ثقافة واسعة وعلما غزيرا وبين أكثر من أربعين في المائة من الأميين؟ أو أنصاف المثقفين الذين لم يكتمل علمهم ولم تتصل ثقافتهم؟ إن حكومات العالم ترتعد أمام القضايا الاقتصادية منذ أن أطلق أئمة الشيوعية صيحتهم بأن الاقتصاد هو عصب الأمن والسلام ولذا تحرص الحكومات كافة علي تيسير الحصول علي رغيف الخبز وتلبية الحاجات اليومية الملحة, ولها عذرها, فالثورات العالمية في غالبيتها انطلقت بدوافع الحرمان والجوع والفقر, والأمر الخطير الذي غاب عن الحكومات أنها لم تلتفت إلي خطر غياب الثقافة وخطر سيطرة الأمية والجهل والأساطير. أعود إلي المشهد المصري علي أيامنا وأزعم أن غياب ثقافة مصرية أحد أسباب ما نحن فيه من تخبط وشد وجذب, وخلط بين ما هو ديني سام وبين ما هو دنيوي مادي كما أن الهوة الساحقة في مجتمعنا تفصل بين صفوة عالية الثقافة وغالبية مطحونة في سعيها للقمة العيش, وليس من جسر يصل بين حافتي الهاوية ليعبر عليه المجتمع المصري إلي شاطئ العدل, والمساواة, والمواطنة وفي صرختها الخالدة عبرت ثورة شباب يناير عن هذا الفراغ الرهيب بين أبناء الوطن الواحد, ونادت عيش, حرية, كرامة هذا صوت مصر انطلق من ضميرها, وخبرة حكمتها, وتحقيق هذه المطالب الإنسانية يحتاج إلي شيء من الثقافة والتنوير والتضامن, وليس بالقوانين وحدها يأتي الخبز, أو تنطلق الحرية, أو تكتسب الكرامة, بل بثقافة تغير أعماق الإنسان, وتهز كيانه ليدرك قيمتها وروعتها, فمتي نبدأ بنشر ثقافة مصرية تستقي من ينابيع المعرفة الإنسانية الشاملة, إنها قضية مصر اليوم لا غدا. المزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته