الديكتاتورية, أو الحكم التسلطي الشمولي, لم يعد مقبولا أو محتملا من الشعوب بل قل عند الأمم جميعا, ولعل أهم سمة للديكتاتورية, أنها تهميش الشعوب تراهم رعايا لامواطنين, اقرب إلي العبيد منهم إلي الأحرار. في ظل الديكتاتورية يلتحف الزعيم ثوب الوطن, ويري نفسه هو الوطن والأمل والنصر, يختزل تاريخ الأمة في تاريخه الشخصي, يتواري الشعب خلف الديكتاتورية, يفقد كرامته كبشر احرار, يصمت صوته, يكبل تفكيره, فقدسرق الديكتاتور العقل والضمير والإرادة, ومع مضي الزمن يستكين الشعب ويخضع, بل قد يري الامر طبيعيا, فيزداد غرور الديكتاتور, وتتضخم احاسيسه بشخصه, ويحيط به بخور النفاق فيصاب بنرجسية ويظن أن وجوده هو وجود الوطن, حاضره ومستقبله وان غيابه هو المأساة والفوضي, مع أن القبور مزدحمة بمن ادعي الخلود, وأزعم ان الديكتاتورية هي ثمرة مرة من ثمار الثقافة الفرعونية التي سادت حوض البحر المتوسط قرونا طويلة. والديكتاتورية أنواع وألوان, منها ديكتاتورية الحاكم أو الحزب أو الفكر الديني, كلها تري الشعوب عواما لاتسعي إلا إلي البقاء والتناسل, بعد أن جردت من ارادتها وقفل باب عقلها وطحنها الفقر والألم, فلا تزال تسيطر عند الحكام فكرة الحاكم المعصوم من الزلل. ولكن الثورات العربية قلبت المفاهيم والخطط, وأكدت ان التغيير ممكن وإن كان له ضحايا وشهداء, وأن الوطن مزدحم بالعقول المتوهجة, كما أكدت هذه الثورات ان الشعوب ليست ساذجة تقودها عصا وتفرقها طلقة نار أو يثيرها دعاء, أو عاطفة, ومنذ خمسة آلاف سنة سجلت أوراق البردي صرخة الفلاح المصري في وجه الظلم والرشوة والمحسوبية, ومهما تمادي الطغيان والظلم وصمتت الاصوات وازدحمت السجون فإن نبض كرامة الشخص البشري لايتوقف, هكذا خلق الإنسان, جائعا دوما إلي الاحساس بالكرامة عطشا دوما إلي حرية إرادته, ولولا هذا النبض الذي زرعه الخالق في نسيج كيان الإنسان لما تقدمت العلوم, ولابزغت شمس الحضارات, ولكن المثل يقول المتكبر الديكتاتورية هو أعمي لا ينظر إلا في مرآة ذاته, ولايري من حوله, أنه إنسان مشوه فقد توازنه النفسي, فكرامة الشخص البشري من صميم النسيج النفسي للإنسان, تأمل مسيرة الثورات العربية, التي عاشت شعوبها غريبة في وطن يملكه الحكام, مهمشة وهي صاحبة الوطن وبدلا من ان يحررها الفكر الديني ويسمو بها راح يخفيها ويسجنها في كهوف الخوف إنها اليوم تحاول امتلاك مستقبلها. ويبدو لي المشهد علي الساحة المصرية, كأن شبح ديكتاتورية من نوع آخر بدا يطل بظلامه ويحجب نور الحرية الذي انبثق فجر الثورة التي لم تكن ثورة عسكر, أو انقلابا سياسيا, أو تغييرا في نظام بال هدم وتصدع, بل كانت إرادة أمة, وصرخة شبابها, ناصعة البراءة والنقاء, لكني ازعم ان محاولة تجري لتهميش الشعوب, بل قل لتهميش الثورات العربية, وهذا خطأ تاريخي فادح فليست هي انتفاضات عابرة أو حدثا محدودا بل هي انفجار إنساني من اعماق الشعوب التي تسعي إلي الحرية والعدل والمساواة ولن تقف آثارها مهما حاول البعض إطفاء شعلتها, كما أنك لن تستطع ان تمنع انوار الفجر من الانتشار, احزاب لاجذور لها, ودعوات تستغل العاطفة الجياشة, اناس لم نسمع عنهم, لم يقدموا خدمة للوطن, لم يسهموا في جهاد لبناء مستقبله, لم يضحوا بشيء في سبيل تنمية مجتمعه المطحون الفقير, اشهد معركة وهمية, لم اسمع من ينادي بتحرير العقل المصري, بفك القيود عن إرادته برؤية تتيح له الأمل في مستقبل واعد, لم اقرأ برنامجا سياسيا علميا يدرك قضايا الوطن الحقيقية, اسمع شجارا ولغطا, يزدحم الفضاء بدعوات دينية وكأن الشعب ليس متدينا أو كأننا نعيش في أمة غير مؤمنة, كأننا في حاجة إلي وعاظ لاخبراء تنمية, إلي كهان وأئمة لا إلي ساسة محترفين, إلي مرشدين روحانيين لا إلي علماء متخصصين, أليس في ذلك تهميش لعقل الأمة؟ وفي ذلك سرقة لضميرها ووجدانها, مصر في حاجة إلي برنامج وخطة للخروج بها من ازمتها الاقتصادية, وتحرر عقلها من الخوف والإرهاب وتجديد وجدانها وثقافتها إنها في حاجة إلي من يضع اقدامنا علي عتبة مستقبل مشرق. الحاجة في زعمي إلي دولة مدنية حديثة حرة لمرحلة سنوات, تهتم أكثر بالتنمية وبالإنسان, بالخروج من نفق الديون ونفق الامية والجهل, تكون المرحلة كمقدمة لقفزةحضارية تتبعها إلي دولة مؤسسات حقيقية وديمقراطية فاعلة وقانون حازم صارم أو بأسلوب سهل, مرحلة تغيير الإنسان قبل تغيير القوانين, إن كنز مصرالإنسان المصري فمن يملك الرؤية ليقود هذا الإنسان الطيب المسالم في طريق العدل والحرية. ازعم ان الحاجة اليوم إلي بناء وطن جديد مصر جديدة في كل شيء, وفي كلمات وجيزة نريد مصر حديثة, مدنية, عادلة, حرة, وهذا لن يتحقق إلا إذا اعطينا الطبقات الفقيرة حقوقها. إن الوطن اليوم بين إيدينا وإن مصر أمانة في أعناقنا فهل نحن جديرون ببناء مصر العظيمة,كما كانت علي مر التاريخ. المزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته