كنت أتمني لو أني لقيت الله دون أن ارتكب ذنب التصويت في أي انتخابات مصرية عامة. وقد فعلت حتي كاد العمر يطوي ستة عقود من العمر فارتكبت خطيئة التصويت. فقد علمتني أربعة عقود من حياتي أنها تجري فقط حتي يظل لفظ الشعب يتردد علي ألسنة الحكام لإخضاعه. واليوم أبرأ إلي الله من ذنب اقترفته يوم انتخابات مجلس الشعب الأخيرة. ولعل الله أراد أن يخفف عني إحساسي بذنبي, فقد فاز المرشحان اللذان منحتهما صوتي في تلك الانتخابات. كنت مثل الغالبية الساحقة من الناخبين لا أعرف شيئا عن أحد من المرشحين. ولكنني توسمت في اثنين منهم روح جيل جديد نبيل تحمل في صبر وشجاعة تضحيات ثورة الخامس والعشرين من يناير. والشجاعة هي الفضيلة الوحيدة التي تجعل الفضائل الأخري ممكنة. غير أن هذين الشابين ما إن وصلا إلي المجلس المهيب حتي ضاعا وسط ضجيج برلماني صاخب واحتلا مقعدين نائيين عن صدر المجلس هناك بعيدا حيث تجلس أقلية لم يعصمها عددها القليل من التفرق والاختلاف واختفيا ولم أعد أسمع شيئا من أخبارهما. لقد أسهمت بخطيئتي في تشكيل مجلس كنت مثل كثيرين قد عقدت عليه بالقلب آمالا عظيمة فأصبح بالعقل خيبة الأمل الكبري. كما يقولون شراب قديم في زجاجات جديدة. لقد خضع المجلس للديمقراطيين الجدد وحدهم دون غيرهم. سوف نري منهم في قادم الأيام نظرية جديدة في الديمقراطية هم وحدهم منظروها وفلاسفتها. نظرية تخلص الديمقراطية من إرثها اليوناني الوثني القديم. ديموقراطية تعيد إنتاج الحق الإلهي بصيغ تلائم شعبا غيب الجهل والفقر والتهميش شرائح واسعة منه لسنوات طويلة. لامانع أن تنتهي تلك النظرية إلي فاشية جديدة تتبلور ملامحها بأساليب ديمقراطية مثلما وصل النازيون إلي الحكم بانتخابات لم تعرف شيئا من التزوير. في يناير الماضي كتبت في هذا المكان ناصحا جماعة الإخوان ومحذرا إياها من محنة السلطة التي تهون أمامها المحن الكثيرة التي واجهتها الجماعة منذ إنشائها وأن الدين الذي رفعت لواءه أصبح مسؤولية ثقيلة عليها. فالغالبية التي صوتت لحزب الجماعة كانت دوافعها دينية وليست سياسية. ولذلك كان أي خطأ سياسي لجماعة الإخوان يمس العلاقة التي ربطت في وجدان كثيرين بين الإخوان والإسلام. كان صعود الإخوان. وكان انتقالهم من غيابات السجون إلي سدة الرقابة والتشريع دراميا. ومن المحتمل أن يفقدوا تلك الشعبية بنفس السرعة التي جاءوا بها. فلم تكد تنقضي شهور قليلة علي أدائهم البرلماني حتي انتشرت الغيوم من حولهم واكتنف الشك كثيرا من أفعالهم. ولن ينفعهم القول بان خصومهم وبعض وسائل الإعلام وراء تلك الحملة بدلا من الاعتراف بأنهم ارتكبوا أخطاء منحت خصومهم علي الأقل الفرصة للنيل منهم. عين علي الصحف القومية وأخري علي الإعلام الحكومي وثالثة علي مشيخة الأزهر ورابعة علي رئاسة الوزراء وسادسة علي الدستور وسابعة علي المنصب الرئاسي الأعلي. وعيون أخري كثيرة علي لجان مجلسي الشعب والشوري. من أين جاءت تلك الأعين الكثيرة ؟ لقد أصاب الإخوان أنصارهم بخيبة أمل شديدة تزداد مع الأيام حسرة وألما. الأخطاء تتراكم ولم يعد بمقدور متحدثيهم أن يتصدوا للدفاع عن كل هذه الأخطاء. تراجعت الحجج وفقد المنطق بريقه القديم الذي كان يدغدغ مشاعر التدين في عمق الشخصية المصرية. حينما كان الإخوان في السجون أو صفوف المعارضة كانت الشعارات الإسلامية كافية لحشد تأييد المقهورين بطغيان النظام السابق. أما وقد تقدم الإخوان صفوف السياسيين في مشهد سياسي مشروع فقد جاء وقت الاختبار وامتحان فاعلية تلك الشعارات. والحقيقة هي أن الجماعة وحزبها السياسي خضعوا كغيرهم من السياسيين لمنطق السياسة البراجماتي النفعي. واكتشفنا أن هذا هو منطق الحياة السياسية المصرية في هذا العصر سواء خضعت لقيادة الحزب الوطني أو حزب الحرية والعدالة أو غيرهما من الأحزاب. الديمقراطية رائعة إن كانت وسيلة للحصول علي منافع ولكنها بغيضة إن هي اقتطعت حقوق الآخرين أو شيئا منها. كان الحزب الوطني يدعي أننا أمة غير مهيأة لممارسة الديمقراطية حتي يظل وصيا علي مصالح الأمة. والإخوان يقولون إن الشعب اختار بحرية واقتدار لأنه فقط اختارهم أغلبية ولو أنه فعل شيئا آخر لكان جديرا بوصف الحزب الوطني. ولكنهم بالأغلبية يفرضون وصايتهم علي الشعب. هذه المرة علي الدستور وعلي منافسيهم في المنصب الأكبر. لست أشك في أن مصالح هذا الشعب ستضيع في ظل الأغلبية المنتخبة بنفس الطريقة التي ضاعت بها في ظل الأغلبية المغتصبة. كلاهما فعل ويفعل ما يريد باسم مصالح الشعب ولا أحد يدري أين هي مصالح شعب لايزال يتألم بحقوقه الأساسية التي اختفت من مطالب الشعوب في معظم بلدان الدنيا. كان الحزب الوطني وهو مغتصب للسلطة يأتمر بأوامر قيادات لايتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة. وجاء الإخوان بالانتخاب وهم أيضا يأتمرون بأوامر قيادات لايزيد عددها علي القيادات الآمرة في الحزب الوطني. كلا الفريقين يعملون بالسمع والطاعة. الحقيقة هي أن الحزب الذي لايمنح الحرية لأعضائه لن يمنحها لغيرهم. هكذا فعل الحزب الوطني وهكذا يفعل الديمقراطيون الجدد. الجماعة التي فصلت من عضويتها قياديا قديما لأنه خالف قرار الأئمة في الجماعة وتقدم للترشيح لمنصب رئيس الجمهورية ثم تناصبه العداء هي جماعة تمثل وجها جديدا غير مألوف من الديمقراطية. الحياة السياسية المصرية لم تتغير ولم تكن الثورة كافية لتغييرها. كل شيء علي ما كان عليه. والسؤال لماذا تبدو ثقافتنا السياسية عصية علي التغيير؟ هل لأن محركات التغيير معطوبة وغير صالحة؟ أم أننا في أعماقنا نتحدث عن التغيير ولانريده؟ لقد كافحنا من أجل الحرية فلماذا تحولنا إلي الصراع معها بعد أن كادت تتحقق؟ المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين