في كتابه " جلاد دنشواي"، يروي الكاتب الصحفي والمؤرخ صلاح عيسى قصة سقوط شيخ المحامين في ذلك الوقت وأكثرهم شهرة المحامي إبراهيم الهلباوي. فعقب أحداث دنشواي وتقرير الانجليز بان تقوم محكمة مخصوصة بمحاكمة المتهمين، قام المستشار ميتشل سكرتير الداخلية الانجليزي بإخبار الهلباوي أن الحكومة قد اختارته ليمثلها فى "اثبات" التهمة ضد المتهمين ذلك لأن نظام المحكمة المخصوصة يقضى بان يمثل الاتهام شيخ من شيوخ المحاماة. وفى خلال المحكمة الهزليه وقف الهلباوى يترافع عن الاحتلال ضد وطنه. ووفق جلاد دنشواي فى لعبته وصدر الحكم فى اليوم التالي بإعدام أربعة وجلد اثنى عشر واشغال شاقة للباقين. ودفع الهلباوي الثمن، فلقد عمّر طويلا بعد الحادث لأكثر من ثلاثين عاما ذاق خلالها الذل والهوان من المصريين الذين قابلوه بالكراهية فى كل مكان. لقد توفي الهلباوي عام 1940 وهو فى الثالثة والثمانين وخلف جنازته كان الرجال يتذكرون بيتا معبرا عن هذه القضية من قصيدة حافظ ابراهيم التى أنشدها عن هذا الحادث حيث قال : أنت جلادنا فلا تنس انا قد لبسنا على يديك الحدادا. أنهى المؤرخ الكبير صلاح عيسى كتابه بقوله : " ذلك أن الشعب طيب ورحيم. لكنه ليس مغفلا ولا ساذجا... ولا قادرا على نسيان الجراح الكبيرة ". نعم الشعب المصري لا ينسى من أساء إليه أبدا مهما حاول التخفي. تذكرت هذه القصة وأنا أتابع المشهد السياسي في مصرنا الحبيبة، ذلك المشهد العبثى الذي نرى فيه جميعا أن المترشحين في الإنتخابات الرئاسية - على سبيل المثال - مازال معظمهم من رجال الأعمال ومساعدي النظام السابق. هو مشهد نرى فيه تذكر بعض القوى السياسية لميدان التحرير وشرعيته وللشهداء ودمائهم ولأهداف الثورة التي لم تتحقق حتى اليوم وذلك بعد أن حدث خلل ما في الصفقات المبرمة مع القوى الأخرى. عفوا ولكن التعامل مع الشعب المصري على أن ليس له ذاكرة وأنه دائم النسيان هو أسلوب خاطئ تماما خاصة في هذه الآونة. فلا أحد ينكر أهمية الوحدة بين كل القوى الثورية ولكن العودة إلى الطريق الصحيح تحتم التعلم من دروس الماضي البعيد والقريب. فلن ينسى الشعب أبدا من تركه في الميدان يضرب ويسحل وتنتهك حرماته تحت مرئى ومسمع من الجميع. ولن ينسى مهما حدث من أهانه وفرط في كرامته طيلة السنوات السابقة ولن ينسى الدماء التي سالت. إن هذا الشعب العظيم يعرف تمام المعرفة ويستطيع أن يفرق بين من يعمل له ومن يعمل لمصلحته الشخصية ولمصلحة المحيطين به. على من يحاولون الإلتفاف على ثورة هذا الشعب أن يعتبروا من التاريخ، فذاكرة هذا الشعب قوية وعقابه أشد قوة...اللهم افرغ علينا صبرا...