تواجه إيران منذ نشأتها معضلة جوهرية تتعلق بكيفية الحفاظ علي مكانة متميزة بين قوي إقليمية كبري. وقد نجحت إيران في التعامل مع تلك المعضلة وفرض مكانتها كقوة إقليمية اعتمادا عل ثلاثة عوامل,هي: الجغرافيا, والموارد, والعلاقات الدبلوماسية. حيث جعلت الجغرافيا الطبيعية للبلاد محاولات التهديد الداخلي المباشر صعبة وخطرة, ومكنتها مواردها الاقتصادية وبصفة خاصة النفط من بناء قوة داخلية ذاتية ساعدتها في مراحل كثيرة علي مواجهة ضغوط خارجية, فيما كانت ومازالت ورقتها الأقوي هي العلاقات التي تربطها بدول جوارها, حيث برعت إيران في لعبة تشبيك ملفات العلاقات الخارجية لصالحها. فقد عظمت إيران من قيمة الجهود الدبلوماسية لتحقيق هدفها في أن يكون لها دور إقليمي متميز. إذ عملت علي عقد تحالفات عدة في المنطقة غلبت فيها المصلحة علي الايدولوجيا, فوطدت علاقاتها بالنظام العلماني الشمولي في سوريا, وبحركة حماس السنية في فلسطين, إلي جانب علاقتها الوطيدة بحزب الله اللبناني, واستخدمت هذا التحالف كورقة ضغط في العديد من القضايا, وعلي رأسها الملف النووي المثير للجدل. حيث تزايد الحديث عن الحرب بالوكالة حال تعرض إيران لهجوم عسكري من قبل الولاياتالمتحدة وإسرائيل, في الوقت الذي استطاعت فيه بذكاء تعظيم مكاسبها من الاخطاء التي وقعت فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية في المنطقة لاسيما في العراق وأفغانستان, حيث تخلصت من النظام العراقي دون تكلفة, هذا من ناحية, وقدمت نفسها كبديل للفراغ السياسي في العراق, من ناحية أخري, وضمنت لسنوات قادمة صعوبة لجوء الولاياتالمتحدة للخيار العسكري نظرا لإنهاك قواتها علي جبهتي العراق وأفغانستان, من ناحية ثالثة, وأخيرا انسحاب القوات الأمريكية من العراق, وضمان بقاء حدودها بعيدة عن وجود عسكري أمريكي مباشر. ربما لم يكن السلوك الإيراني في محيطها الإقليمي صداميا إلي هذا الحد الذي يتسم به الأن نظرا لوجود قيادة متشددة يتزعمها أحمدي نجاد المحسوب علي الجناح المتشدد من التيار المحافظ, والذي اتسمت سياسته الخارجية خلال فترتي ولايته بالتعقيد, فضلا عن تزايد الخلافات بين اقطاب النظام حول العديد من الملفات ومن بينها ملف إدارة العلاقات مع الخارج, والتي برزت عقب محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن علي الجبير في أكتوبر2011, والتي اتهم الحرس الثوري الإيراني بالتخطيط لها. وهنا يمكن القول إنه كلما تزايدت الضغوط علي النظام الإيراني بالغ في اتباعه لإستراتيجية دفع الأمور باتجاه حافة الهاوية والمبادرة بالهجوم. ولعل الضغوط الغربية الحالية بشأن الملف النووي دليلا علي ذلك, فإذا لم يكن حديث المرشد الأعلي للثورة الإسلامية علي خامنئي عن أن إيران ستلجأ للهجوم كوسيلة للدفاع عن نفسها إذا ما تعرضت لهجوم عسكري, ليس بالجديد, حيث سبق وأن هدد باستهداف مصالح أمريكية في المنطقة إلي جانب إسرائيل إذا ما تعرضت المنشآت النووية لضربة عسكرية, فإن الحديث عن هذا الهجوم خلال الفترة الحالية يأتي مقرونا بتوتر في العلاقات مع العديد من دول الجوار, فعلي خلفية ما يحدث في البحرين من احتجاجات اتهمت إيران في تأجيجها, نددت الأخيرة بدخول قوات درع الجزيرة التي تشارك فيها المملكة العربية السعودية بالنصيب الأكبر إلي البحرين واعتبرت ذلك نوعا من الاحتلال. وعلي خلفية إعلان السعودية عن استعدادها تعويض الأسواق العالمية عن النفط الإيراني, سارع ممثل إيران لدي منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك محمد علي خطيبي بإرسال رسالة تهديد مبطن, إذ قال إنه في حال أعطت الدول الخليجية الضوء الأخضر للتعويض عن النفط الإيراني ستكون مسئولة عما سيحدث, كما هددت إيران بغلق مضيق هرمز ومنع مرور النفط الخليجي إلي الأسواق العالمية إثر الحديث عن احتمال تعرض قطاعها النفطي وبنكها المركزي لعقوبات أمريكية وأوروبية, وهو الإجراء الذي تم اتخاذه بالفعل, وفي مقابله لجأت إيران إلي استخدام النفط كسلاح لأول مرة في معركتها مع الغرب وذلك باستباقها القرار الأوروبي بوقف استيراد نفطها بحلول شهر يوليو القادم, وأوقفت بيع النفط للدول التي وقعت علي هذا القرار.ويمكن القول بأن مثل هذه الإجراءات تعبر علي الأرجح عن شعور إيران بتهديد حقيقي وشيك لا يتمثل فقط في احتمال اللجوء إلي الخيار العسكري والهجوم علي المنشآت النووية من جانب الولاياتالمتحدة بالتعاون مع إسرائيل أو بشكل فردي من قبل أي منهما, لاسيما مع طرح الملف الإيراني برمته علي طاولة المزايدات في الانتخابات الأمريكية القادمة, بل واستشعار وجود خطر يمكن أن ينال من تماسك جبهتها الداخلية أيضا علي خلفية الأزمة التي أعقبت الاعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الماضية وفوز الرئيس أحمدي نجاد بفترة ولاية ثانية, وما تلاها من احتجاجات تعامل معها النظام بعنف مفرط أدي إلي بلورة حركة معارضة جديدة الحركة الخضراء- مازالت نشطة رغم اعتقال زعمائها ووضعهم قيد الإقامة الجبرية, هذا إلي جانب الانتقادات الموجهة لأداء الرئيس والحكومة في العديد من الملفات الداخلية المهمة وعلي رأسها الاقتصاد, الذي تراجعت مؤشراته بشكل كبير خلال الفترة الماضية, متأثرا بالعقوبات المفروضة علي إيران من جهة, وأزمة الاقتصاد العالمي من جهة أخري, الأمر الذي يدفع الحكومة الإيرانية لاتخاذ عدد من الإجراءات من شأنها تحسين وضع العملة المحلية مقابل الدولار بعد تراجعها أمام الأخير بنسبة تفوق ال12%,- فعلي سبيل المثال تمت الموافقة علي رفع نسبة الفائدة علي إيداعات الريال الإيراني في البنوك المحلية بهدف وقف بيعه واستبداله بعملات أجنبية من قبل الإيرانيين, وهي إجراءات في مجملها ترهق موازنة الدولة المعتمدة بشكل كبير علي العائدات النفطية التي حتما ستتأثر بالعقوبات الجديدة علي القطاع النفطي الإيراني, فضلا عن التخوف من إحكام الحصار علي النظام ونجاح محاولات تركعيه وتفريغ تحالفاته الإقليمية من مضمونها بعد أفول نجم حزب الله, وعودة حركة حماس لمحيطها العربي, وما يتعرض له النظام السوري من ضغوط دولية قد تؤدي إلي سقوطه. ولذلك تبدو إيران مستميتة في الدفاع عن النظام السوري ودعمه بطرق شتي مالية ولوجستية وعسكرية أيضا. وفي إطار هذا الدفاع تتصادم مع العديد من الأطراف الإقليمية وعلي رأسها تركيا, التي ابدت استعداها مؤخرا لاستضافة جولة جديدة من المفاوضات الإيرانية مع القوي الكبري الممثلة في مجموعة5+1 بشأن الملف النووي المقررة في13 و14 من ابريل الجاري, غير أن طهران قد أعلنت تفضيلها عقد هذه المفاوضات في بغداد وليس أنقرة إذا ما وافق الطرف الثاني, علي خلفية استضافة تركيا لمؤتمر أصدقاء الشعب السوري, وهي بذلك تحاول تحقيق ثلاثة أهداف, الأول: يتمثل في التأكيد علي علاقاتها الجيدة مع الحكومة الحالية في العراق, بل ونفوذها فيه, والثاني: إقحام العراق وربما توريطه في ملفات اقليمية تضمن ارتباطه بإيران, لاسيما في ظل وجود حكومة نوري المالكي التي يبدو وأنها قد قبلت أن تكون جزءا من المحور السوري الإيراني, خاصة أن دخول العراق علي خط ممارسة أدوار مهمة في الملفات الإقليمية يمكن أن يستخدم كورقة ضغط من قبل المالكي من شأنها إضعاف خصومه السياسيين في الداخل, وذلك علي خلفية تفاقم الخلافات بينه وبين القوي الكردستانية, وائتلاف العراقية بزعامة إياد علاوي. أما الثالث: فيتمثل في تقليص الدور الإقليمي المتصاعد لتركيا عقب ثورات الربيع العربي, واحتدام الصراع علي النفوذ في منطقة الشرق الاوسط بين محورين تركي- سعودي قطري وأخر إيراني- سوري ذ ب حقيقي عن صراع المحورين. ويبدو هذا السلوك الايراني الذي يغلب عليه سمة التصعيد والذي يؤشر في نفس الوقت إلي وجود ارتباك لدي متخذي القرار السياسي مرشحا للاستمرار في ظل ما يجري في الإقليم من تطورات, من ناحية, وما يمر به النظام الإيراني من ضغوط بسبب برنامجه النووي من ناحية أخري, إذ لا يتوقع أن تتوصل جولة المفاوضات المقبلة لحل حاسم لأزمة إيران مع الغرب, في ظل تمسك الطرفين بموقفيهما, فمن غير المتوقع أيضا أن توافق إيران علي شرط التوقف عن تخصيب اليورانيوم علي أراضيها, كما أنه من المستبعد قبول الغرب التغاضي عن هذا المطلب, في الوقت الذي تزيد فيه العقوبات من ضعف الاقتصاد الإيراني, وبالتالي زيادة حدة الاحتقان الذي تشهده الساحة الداخلية الإيرانية, مما يعني لجوء النظام إلي تصدير مشكلاته الداخلية للخارج, بغرض الالهاء عن المشكلات الحقيقة التي تواجهه, اعتقادا منه في استمرار وجاهة وصلاحية فكرة توحيد الداخل بإيجاد تهديد خارجي.