هل تري من راح مختالا بسلطان يزكيه وجاه؟ حاشدا حوليه طوفانا من المدح الرخيص, وقناطير من اللغو علي ألسنة شتي, توافيه بما يرضيه من قول هزيل وثناء, ودعاء آملا أن يستجاب! وهو أدري الناس بالزيف الذي يخفيه والعصر الذي أنجبه رمزا لكل الموبقات. لا تسر من خلفه فهو وعاء من خزف, لن يمر اليوم واليومان حتي ينقصف! فليزين نفسه ما شاء, هذا حلس ليل يتحلي بالتلف, يوم يضحي بين كل الناس مدعاة الأسف! لا تقل لي ما الذي يجديه عند الروع من سعي وسلطان وجاه؟ كل من حولك أشباه له في كل شيء, وكبير القوم دوما موضع التقليد والمسعي الخسيس. فتنبه للذي يأتي, وغير وجهتك, واعتصم بالمتبقي من هوي القرية في القلب, وبادر بالنجاة! ذلك الآبق أغواني وأغراني, فراعتني حكاياه, وصدقت نواياه, فأدخلت وجودي في امتحان لا يطاق, وتساءلت طويلا: لم لا أنفيه من يومي, ومن أمسي, ومن كل زماني؟ اطرد الوجه بعيدا عنك, لا تحسبه من دنياك, لا تقذف به حتي بقاع الذاكرة. ما الذي يلقي بهذا الوجه دوما في طريقي, ويلاقيني ثقيل الظل والوطأة, فالدنيا مضيق في مضيق, وأنا أجهد كي أحيا, وأنفاسي اختناق, وليالي محاق, ودروبي كلها مسدودة, فمتي يارب يوما واحدا أدعوك يوما لا أراه؟ أنا ذا أعدو إلي المنفي, ومنفاي الكويت. هو عام واحد تقضيه في الغربة, إن طابت لك الأحوال جددت, وإن لم, عدت للعش الذي غادرته ذات صباح, دون أن تدري لماذا لم تخض في الأمر, لم تستفت نفسك. أسمعوك الكلمات الجوف, حتي لنت, في حب الوطن. ثم قالوا إنه مسعي جديد لك, أفق لم تكن تحلم يوما أن تراه, ذلك العام الذي تخشاه أيام وبعض من شهور. ما الذي تجفل منه؟ ربما يصبح هذا العام ميلادا لعمر قادم, وزمان باسم, ورفاق وصداقات ودنيا لاهتمامات جديدة. أنت تشكو من ظلامات هنا, فلماذا لا تجرب غيرها مما ترجيه هناك؟ انس ما حولك, إن كان الذي حولك يغريك, ويصبيك, وينسيك شكاواك, وضيق اليد, والأفق, سعيا في دروب التهلكة. سوف ترتاح من اللغو, وأحقاد وأوشاب صغيرة. لن تري حولك من يطمع في شيء لديك, جاحظ العينين حتي يملأ العينين مما في يديك. هذه مملكة الصحراء قد هاءت, وأفق أصفر الطلة يدعوك, وطوز في انتظارك. سوف تعتاد الرياح الهوج, تعتاد الأعاصير, فحاذر سافيات الرمل إذ تحجب عن عينيك وجه اليوم, يأتي الليل في الظهر, وتنسل إلي داخل ما تأكل أو تشرب, تستلقي إلي جنبك, أنفاسك رعب واختناق. هل لهذا أنت غامرت وسافرت, وما معني الحياة؟ يطلع الصبح, ويجلو الطوز, والرفقة من حولك هم ورد شباب يبدأون السعي من أجل غد يأتي, أتوا حتي يروا فيك مثالا يحتذي, ودليلا لعناق الحرف, والحس الإذاعي, وكشفا للبصيرة. لم يكن ينقصهم إلا نداء ودليل. أنت في المجلس, يلتفون من حولك, يحظون بأحلام وميلاد حياة لم تكن من قبل, متي يأتي نداء الجامعة؟ إنهم صوت الكويت الآن- في الشعر وفي القصة, وفي الإعلام والإبداع, والروح الحضاري الذي يطمح للأعلي, ويجتاز المسافات إلي المجهول, والمجهول ناء لا يبين. بينهم تنسي اغترابا, واقتلاعا من جذور لك في مصر, وعيشا هانئا تلقاه من صدر حفي بك قد فاض حنانا وأمومة, كيف دارت هذه الأيام والليلات, منزوعا من المأوي الذي ارتحت له في ظل أختك, حين صارت أمك الصغري, فحاطتك ونجتك من الزيف الذي أوشكت أن تغرق فيه, ناسيا نفسك, مأخوذا, تناديك غوايات الشباب. هذه الرفقة في الغربة أغلي ما اقتنيت, هم مراياي, وأشباهي, وصناع الغد الفذ, وطلاب المعالي. يطلع الصبح وهم حولك في مكتبك العامر, والدنيا قراءات, حوارات, عروض لثقافات وآداب, وإبداعاتهم تولد خجلي, ثم تزداد نفاذا واكتمالا, واقترابا من تخوم الحلم يوما بعد يوم. فإذا جاء المساء- غالبا يأتي مليئا بنداءات السهر- مضت الصحبة بي نحو اللقاء العذب في المستشفي الأميري, حيث نلتف جميعا حول صوت الشعر في عصر جلال الشعر والإبداع والقول الفريد. إنه السياب, في أقصي انحناء القوس, في رحلة أيوب, مسجي, وهو مشدود إلي مرقده, يذوي, ولا حجم له, لا شكل, وعيناه شعاعان من الضوء ورأس يتجلي في حكايات ويمضي في تهاويل وأشعار تعيها الذاكرة, وهو يهدينا جديدا منه في كل لقاء. يبدأ الإبداع في الليل, يواتيه, وفي الإصباح يمليه علي أول من تأتيه من طاقم مستشفاه, قبل أن ينساه- في هول عذابات النهار- ونلقاه إذا جئناه في وقت المساء, إنها الصحبة تأتيه سراعا تتحلق, نقرأ الشعر الذي لم ينقطع شيطانه عنه, ولم يتركه في المحنة وحده. نحن في داخلنا نبكيه, ولا نظهر إلا فيض إعجاب كبير ومحبة. إنه شاعرنا الأكبر, مبدعنا الذي يفضل في أعيننا جيله من مبدعي الشعر الجديد. كيف نلقاه ولما يبق فيه غير هذا الرأس, يوصيني به حين حملناه مسجي, قادما في الطائرة, هاتفا بي صوته الواهن: يا فاروق رفقا, لم يعد في سليما غير هذا الرأس, فاحمله برفق, كل جسمي الآن مشلول, ينادي في ابتهال: رصاصة الرحمة يا إله! المزيد من مقالات فاروق شوشة