فى 18 يوليو 2013 أصدرت المجلة الفرنسية «لو نوفل أوبسرفاتور» عددا به ملف خاص عن فولتير. وعلى الصفحة الأولى من الملف صورة لشاب مصرى يقف على عمود إنارة ويرفع كارتا أحمر لمرسي. وكتبت المجلة أسفل الصورة «انتصار فولتير». هل هى تماحيك؟ وإن لم يكن.. فما هى العلاقة بين فولتير وثورة المصريين؟ هناك بالفعل علاقة، فحين يتم تكفير المعارضين، وحين تتوالى قضايا ازدراء الأديان فى إيقاع لم تشهده مصر من قبل. وعندما يُطرح سؤال: هل ينفع نهنئ المسيحيين فى عيدهم، وإلا يبقى حرام؟ وحينما يطرح هذا السؤال إنسان بسيط فانك تأسى له ولعقله المحدود، ولكن حين يطرح هذا السؤال رئيس جمهورية فإنك تأسى لأمة بأسرها. لقد أصبح فولتير رمزا عالميا للكفاح ضد التعصب الديني. ففى العالم بأسره اعترف رواد التحرر والتحديث من صن يات صن إلى بليخانوف إلى أحمد لطفى السيد إلى غاندى بتأثير أفكار فولتير فيهم. حياته كلها كانت كفاحا مستمرا ضد الظلم والظلامية. ولقد كان كفاحا مؤثرا تجاوز حدود فرنسا فى حياته، وحدود أوروبا بعد موته. وكان من عوامل انتشار أفكار فولتير التحررية ثقافته الواسعة وموهبته الأدبية الفريدة وروح السخرية اللاذعة. فقد كان فولتير مؤرخا وفيلسوفا وروائيا، وكاتبا مسرحيا، بل إن شهرته الواسعة فى حياته كانت ترجع إلى كونه مؤلفا مسرحيا معروفا فى كل أوروبا. ولدى فولتير كانت كل هذه الأنواع الفكرية والأدبية وسائل لخدمة هدف واحد: التنوير. لقد اعترض فولتير على تلك القسمة القديمة التى كانت تفصل النخبة العاقلة والحكيمة عن الأغلبية الجاهلة من الغوغاء وعامة الناس، ورأى أن إبقاء الشعب فى محيط من الجهل ليس إلا حيلة يلجأ إليها الملوك للإبقاء على تسلطهم السياسي، ويلجأ إليها رجال الدين لإدامة تسلطهم الفكري. «المعرفة حق للجميع» هو شعار التنوير. وفى مقدمة «القاموس الفلسفي» والذى هو فى أغلبه نقد للقصص الدينى فى العهد القديم، يكتب فولتير فى المقدمة مخاطبا القارئ: «إننى اكتب لك كتابا صغيرا يمكنك أن تضعه فى جيبك» لينطلق بعد ذلك تعبير «كتاب الجيب» فى كل الثقافات ليعنى «المعرفة للشعب». فولتير، صاحب القول المشهور: «قد اختلف معك فى الرأى ولكننى على استعداد لأن أدفع حياتى ثمنا لحقك فى الدفاع عن رأيك»، دشن فى اهتمامه بالشأن العام، دور المثقف فى عصرنا الحديث. وهو التنديد وتكوين رأى عام ضد الظلم والتعصب. ففى إحدى المدن الريفية اتهم أب بروتستانتى اسمه كالاس، بأنه قتل ابنه الذى كان ينوى اعتناق المذهب الكاثوليكي، وحكم على الأب بالإعدام وتم تنفيذ الحكم. ولاحظ فولتير أن هناك تضاربا فى شهادة الشهود، وحكما مسبقا أصدره الرأى العام المتعصب على الأب المسكين، وأن هناك رضوخا من جانب القضاة لضغط الجمهور الغاضب. وعلى مدى عامين يكتب فولتير فى إصرار وعناد مبينا مدى الظلم فى هذه القضية، ليثير ضغطا داخل فرنسا وخارجها، ليعاد فتح القضية من جديد ويحصل الأب على البراءة بعد إعدامه. ملابسات هذه القضية هى جزء من كتابه «رسالة فى التسامح»، والذى عاد ليصبح أكثر الكتب مبيعا فى فرنسا بعد مجزرة مجلة «شارلى إبدو». والكتاب يتضمن أيضا بيانات للتنديد، وتأريخا لانحراف المسيحيين برسالة المسيح من التسامح إلى التعصب، وحوارا بين «إنسان يحتضر وآخر ذى صحة جيدة» يحاول فيه هذا الأخير إجبار المحتضر قبل موته على تغيير دينه ليفوز المحتضر بالنجاة فى الآخرة ويفوز هو بالمجد فى الدنيا. ومسرحية يسأل فيها ملك الصين ممثل الجالية البروتستانتية وممثل الجالية الكاثوليكية عن سر الاقتتال المستمر بين طائفتيهما، وينبرى كل منهما ليعرض الفروق العقائدية واللاهوتية بين المذهبين. وأمامهما ملك الصين الذى لا يفهم شيئا، يضرب كفا بكف متسائلا: وهل هذا يستحق سفك كل هذه الدماء؟ وبالكتاب قصائد يتضرع فيها فولتير إلى الله أن يحمينا من آفة التعصب. كل هذه الأنواع والأساليب الفنية فى كتاب واحد يسخرها فولتير لإدانة التعصب الدينى والذى يأتى فى نظره من الرأى العام أكثر مما يأتى من السلطة. أكثر من قضية من هذا النوع تصدى لها فولتير، وعلى رأسها قضية لو شفالييه دو لابار الذى أعدم لأنه لم يرسم علامة الصليب أثناء مرور موكب كنسى مما اعتبر ازدراء للأديان، ولكى تُحكِم هيئة المحكمة التهمة ذكرت أنه بتفتيش بيته تبين أنه يقتنى كتاب «القاموس الفلسفي» لفولتير!! لقد أعطى فولتير للشعب سلاحا فعالا ضد التعصب وهو الاستهجان العام. ولقد جربناه فى مصر وبدا فعالا عند أحداث هدم الأضرحة، وقتل المحبين، وقص شعر الفتيات غير المحجبات. فبعد أن كان الفاعلون فخورين بما فعلوا تراجعوا أمام موجة الاستهجان العام. لقد ذاق فولتير السجن، وأحرقت كتبه وهو حي، لكنه ظل مصرا على القتال من أجل ثلاث قيم، العقل والعدل والحرية. فولتير، إمام الساخرين، أبى أن يموت دون أن يترك على شفاهنا هذه الابتسامة. بينما هو على سرير المرض فى النزع الأخير، هب كثير من الناس لزيارته وكانوا يطلبون منه أن يلعن الشيطان قبل أن يموت. فقال لهم فولتير: يا جماعة، انتم شايفين يعنى إن الظرف مناسب لأن يصنع المرء لنفسه أعداء. لمزيد من مقالات د.انور مغيث