نحن ثلاث شقيقات، وعينا على الدنيا بلا أم، وعلمنا أنها ماتت فى حادث سيارة صدمتها من الخلف، وهى تمشى على يمين الطريق، ولم يتحمل أبى الحياة بمفرده فغادر بلدتنا إلى مكان لا نعلمه وتزوج واستقل بحياته وتركنا فى رعاية جدتنا لأمنا وهى سيدة بسيطة، لم يكن لها مورد رزق سوى معاش الضمان الاجتماعي، وليس لديها أولاد، وقد كرست حياتها لتربيتنا, وعملت فى التجارة البسيطة، ثم افتتحت محلا صغيرا للبقالة، وأسهم معها أهل الخير فى شراء البضاعة, وتدرجنا فى التعليم حيث تخرجت فى كلية التربية, وتخرجت اختى التى تلينى فى كلية الآداب، أما أختى الثالثة فقد صارت طبيبة، وجاءنا من يطلب يدى من أهل البلدة، وكان يعلم ظروفنا جيدا, فلم يطلب منا أى مساهمة فى الأثاث، وقال إنه سوف يتكفل بكل شيء, وأنه يكفيه ما أنا فيه من أدب وأخلاق, وانه يقدر هذه السيدة العظيمة على حد تعبيره, لكنها أصرت على أن تسهم فى الزواج بما تستطيع، وبالفعل اشترت لى الأجهزة الكهربائية بالتقسيط, وأسهمت فى شراء الأثاث، ولا استطيع ان اصف لك فرحتها يوم زفافي, ووسط الزغاريد شاهدت الدموع تنساب من خديها، وفى نهاية الحفل اخترقت صفوف الحاضرين الذين جاءوا من أنحاء البلدة لمشاركتى فرحتي, وطبعت على جبينى قبلة العمر إنها أمى التى ربتنى واحتضنتنى أنا وأختى، عندما رمانا أبى وكان الله معها ومعنا فشد من ازرها واعانها على تربيتنا وانتقلت إلى عش الزوجية... ووجدت كل حنان ورعاية من زوجي, وبعد عام انجبت ولدا جميلا، وصارت لى أسرة صغيرة, ثم تزوجت اختاى بنفس طريقتى وتكرر السيناريو نفسه معهما،ونظرت إلى جدتى فوجدت علامات الرضا والطمأنينة قد بدت على وجهها البشوش, فلقد أدت رسالتها تجاهنا, وأصبحت لنا أسر مستقرة. إننى اكتب إليك هذه الكلمات لكى يعرف قراؤك ان هناك من قمن بدور الأمهات لأبناء لم يضعنهن، ولكى اقول لجدتى شكرا لك يا أمي, وكل سنة وانت طيبة. ولكاتبة هذه الرسالة أقول: من حق جدتك أن تبتسم وترتسم على وجهها علامات الرضا والسعادة, فلقد احسنت تربيتكن وكانت لكن الأب والأم معا، بعد أن ماتت أمكن, وتخلى عنكن ابوكن. انها سيدة من طراز خاص ندر وجوده فى هذا الزمن الذى طغت فيه الماديات, وأصبح هم معظم الآباء والأمهات بعد الانفصال أو رحيل أحدهما الانصراف إلى النفس والملذات وإذا كان والدكن قد تخلى عنكن فإنه سوف يدرك إن عاجلا أو آجلا الخطأ الفادح الذى وقع فيه بالتخلى عن بناته, فالإنسان كما يدين يدان. هكذا علمتنا تجارب الحياة, لكن الأنانية تقف دائما بالمرصاد أمام هؤلاء الذين يغلب عليهم حب الذات، وعندما يفاجأون بتقلبات الأيام لا ينفعهم الندم! هنيئا لك ياسيدتى بحياتك وبجدتك المخلصة الصابرة التى حصدت بعض ما صنعت وهى على قيد الحياة بزواجكن الناجح, وسوف تحصد المزيد من الخيرات فى الدار الآخرة بإذن الله.