واحدة من القواعد المهنية التى يروج لها الإعلام الغربى الواسع النفوذ فى العالم هو عدم الترويج للمتشددين بأى طريقة من الطرق لكن ما جرى من صحيفة «واشنطن بوست» ليلة الجمعة الماضية يخرج عن تلك الأعراف المهنية التى يصدعون رؤوسنا بها وتكفى للتدليل على معايير غير مفهومة فى تناول الأحداث الجسام فى منطقة الشرق الأوسط. نشرت الصحيفة مقالا لرئيس لجنة العلاقات الخارجية فى جبهة «أحرار الشام» التى تقاتل الجيش السورى شن خلالها هجوما عنيفا على سياسة الرئيس الأمريكى باراك أوباما واصفا إياها ب «الفشل الذريع» ومدعيا أن الولاياتالمتحدة قد ضيقت من مصطلح القوى المعتدلة بإستبعاد جماعات المعارضة فى البلاد بما فى ذلك أحرار الشام. وتابع كاتب المقال لبيب النحاس أن واشنطن تتهم حركته «زورا» بأنها قريبة من تنظيم القاعدة وهو يخالف ما هو متعارف عليه من تحالف «احرار الشام» مع «جبهة النصرة» التابعة لتنظيم القاعدة وقتالهم لتنظيم الدولة «داعش» للسيطرة على مساحات من الأراضى السورية وليس بناء على إختلافات أيديولوجية بينهما. تنشر «واشنطن بوست» المقال فى وقت تستهدف الضربات الجوية الأمريكية تجمعات أحرار الشام وداعش وجبهة النصرة فى العراقوسوريا وهو تصرف غريب فى ظاهره ولكن لو عرفنا شبكة العلاقات والتحالفات المحيطة بالمشهد السورى وميول بعض الصحف الأمريكية - والغربية عموما - لزال العجب. تقول دراسة لمؤسسة كارنيجى البحثية فى دراسة تعود إلى شهر مايو من عام 2013 «أن أعضاء جماعة الإخوان السورية شاركوا فى تمويل حركة أحرار الشام الإسلامية (سابقاً كتائب أحرار الشام)، وهى مجموعة سلفية أقلّ تطرّفاً تسيطر على الجبهة الإسلامية السورية، وهى تحالف إسلامى كبير. وذكرت بعض التقارير أنه تم تجنيد العديد من الأسر المرتبطة بجماعة الإخوان فى كتائب أحرار الشام فى وقت مبكر من الانتفاضة. وأدّى ذلك إلى تشكيل شبكة من الروابط الشخصية بين الكوادر الإخوانية المنفيّة ومقاتلى أحرار الشام داخل سورية..». الأكثر جرأة فى مقال قيادى أحرار الشام هى لغة التقريع التى يستخدمها الرجل فى حق الإدارة الأمريكية والتى وصف صناع القرار بها بأنهم «عالقون داخل فقاعة خاصة بهم» فيما راح يقدم دروسا فى تلاعب واشنطن بأموال دافعى الضرائب وتخصيصها لجهود وكالة المخابرات المركزية الفاشلة لدعم ما يسمى القوات» المعتدلة «فى سوريا»، وينهى النحاس مقاله بدعوة الولاياتالمتحدة إلى نصرة «تحالف من السنة» لهزيمة داعش وليس ما تسميه واشنطن بالقوى المعتدلة. منحنى خطير انزلقت فيه الصحيفة الأمريكية عن وعى وإدراك بخطورة كل كلمة فى المقال المشار إليه وهى الصحيفة نفسها التى تفرد الإفتتاحيات الواحدة تلو الأخرى للهجوم على السلطة الحالية فى مصر وتنزعج من الأحكام الصادرة بحق إرهابيين ولا تطرف عينها وهى تنشر مقالا لواحد من أمراء الدم الذين أزهقوا أرواح مئات الألاف فى حرب مشينة تدمر البشر والحضارة على أرض سوريا. ولا يقل ما فعلته صحيفة واشنطن بوست فداحة وعارا عما فعلته «قناة الجزيرة» عندما قام أحمد منصور المطلوب للعدالة فى مصر بإجراء مقابلة مع الطيار العقيد على عبود من الجيش السورى سمته «أسير» فى قبضة جبهة النصرة، قام فيها مقدم البرنامج بدور المحقق العسكرى على حساب الشرف المهنى وهو أمر غير مستغرب على نهج قناته التى تدعم جبهة النصرة على طول الخط بإيعاز من الحكومة القطرية. تلك الومضات الصحفية تعطى ملمحا عن حالة مضطربة فى الإعلام، أمريكياً وإقليمياً، تختلط فيها شبكات العلاقات والتحالفات ولا تأتى المهنية، التى يزعم البعض الإلتزام بها، على سلم أولويات مؤسسات راسخة. وفى ظل وجود جماعات ضغط «لوبيهات» قادرة على النفاذ إلى دوائر الإعلام الدولى يمكن تلوين أجندات الصحف وتمرير ما يتعارض مع المصالح الوطنية حتى فى أعرق الديمقراطيات وهناك حالات عديدة على إختراقات وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث وأقربها ما كشفت عنه الصحيفة الأمريكية ذاتها فى نوفمبر من العام الماضى عن تأثير المال الأجنبى على أجندة مراكز التفكير فى واشنطن. رسم أجندات سياسية جديدة فى الشرق الأوسط يبدأ دائما فى دوائر الإعلام الغربي، والمنطقة مازالت تنتظر تحولات مهمة فى المرحلة المقبلة يمهد لها الإعلام عن طريق شبكات التحالفات الخفية ولولاها ما عرف مقال «أحرار الشام» طريقه إلى «واشنطن بوست»! لمزيد من مقالات عزت ابراهيم