إذا أحسن المسلم الظن بالله، وبذل الجهد في تحصيل الأسباب، وأتْبع ذلك بحسن التوكل على الله والاستعانة به مع الصبر على البلاء؛ هيأ الله عز وجل له من الأسباب التي لا تخطر له على بال ما يكون معينًا له على تحقيق النصر والفوز، على الرغم من ضعفه وقلة مؤنه في الحياة، وهذا هو ما حدث في غزوة بدر الكبرى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله تعالى عنهم، فقال تعالى: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»، قال الإمام الرازي رحمه الله: «ذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الفقر والعجز، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة، ثم إنه تعالى سلط المسلمين على المشركين فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن العاقل يجب ألا يتوسل إلى تحصيل غرضه ومطلوبه إلا بالتوكل على الله والاستعانة به». فالمسلمون في بدر كانوا في فقر وحاجة، وكانوا قليلي العدد والعُدة، في وقت كانت فيه قريش قوية وذات منعة، وتملك من العتاد والأعداد ما يفوق عدد المسلمين، وفي عصر كان ميزان القوة العسكرية فيه لصاحب العدد الأكبر في العدد والعدة، وعلى الرغم من كل هذا فقد انتصر المسلمون في معركة الفرقان، وثبُتتْ أركانُ دولتهم الناشئة الغضَّة، وأصبحوا ذوي شوكة تهابهم العرب؛ لأنهم أحسنوا الظن بالله واستنفذوا الأسباب وتعلقت قلوبهم بالتوكل على الله والاستعانة به، فتحقق لهم وعد الله وتأكيده، فقال تعالى: «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا». وكان سبب هذه المعركة الكبرى أن المسلمين كانوا في حال من الضعف والفاقة فأرادوا الخروج لملاقاة عير قريش، لتحصيل أموالهم التي سطت عليها قريش واتَّجرت فيها؛ فقد أخرجوهم من ديارهم وأموالهم بعد أن فشلوا في أن يعيدوهم إلى الشرك مرة ثانية، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في سيرة ابن هشام بعير قريش فقال لأصحابه: «هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ فَاخْرُجُوا إلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ يُنْفِلُكُمُوهَا»، فعزموا الخروج لاسترداد حقوقهم التي سلبتها قريش، متوكلين في ذلك على الله تعالى. ولم يقف الأمر في الاستعداد لقتال العدو على التوكل فحسب، بل سبقه أخذ بالأسباب، فقد استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج وخوض المعركة من باب استنفاذ الأسباب، فأشار عليه الجميع من المهاجرين والأنصار بخوض تلك المعركة؛ إذ العامل الظاهر الذي لا بد أن يكون ساريًا في عقيدة المسلم هو أن يقوم بأخذ الأسباب على أكمل وجه وبكل ما يستطيع؛ لأن الإنسان هو المكلف والمقرب قال تعالى: «فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسنا إن الله سميع عليم»؛ فالنصر حصل بمعونة الله تعالى، قال الإمام الرازي رحمه الله: روي أنه لما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه قريش، قد جاءت بخُيَلائها وفخرها يكذبون رسولك «اللهم إني أسألك ما وعدتني»، فنزل جبريل وقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعلي أعطني قبضة من التراب من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم، وقال شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا»، فاستجاب الله تعالى لاستغاثة هؤلاء النفر الذين لم يكن يخالج يقينهم شك في نصر الله تعالى: «إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم». ومن أسباب النصر والفوز أن تكون الاستغاثة لله لا لغيره، حتى يتحقق النصر المبين؛ فهذا أبو سفيان قائد قافلة المشركين استغاث بأبي جهل وأرسل من يستنفر قريشًا لنصرته؛ فخرجت قريش في ألف مقاتل، ومائة فرس، وسبعمائة بعير، في حين كان رسول صلى الله عليه وسلم وصحابته يستغيثون بالله تعالى المدبر والخالق والقادر على كل شيء؛ وتوكلوا عليه وخرجوا في ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلاً، وفرسين أو ثلاثة «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ» وأخذوا بالأسباب من إعداد العدة واختيار الأماكن ومشورة أصحاب الرأي والخبرة؛ إذ النصر لا يتحقق إلا بالأخذ بالأسباب من خلال الإعداد الجيد والتجهيز الجيد ثم التوكل على الله، بعدها تتحقق الاستجابة ويأتي المدد من الله تعالى، ثم يتحقق نصر الله المبين «فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ». وختاما : إن أردنا النصر في كافة شئون حياتنا علينا بالتأسي بما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته في غزوة بدر الكبرى؛ كي ننتصر على عدونا – ومنه الإرهاب الأسود الذي يحيق ببلادنا هذه الأيام - وبذلك أيضا نتغلب على كسلنا وجهلنا وكل ما يُعد عدوًّا للإنسان، وهذا الانتصار لن يتحقق إلا بالأخذ بالأسباب ثم حسن التوكل على الله تعالى واللجوء إليه بصفات العبودية لننال من الله سبحانه آثار صفات الربوبية، فيكتب لنا النصر على الأعداء، والقبول عند رب الأرض والسماء . لمزيد من مقالات د شوقى علام