رجال مسلحون بمدافع رشاشة، يضعون نظارات سوداء ويستقلون سيارات دفع رباعى، اقتحموا مطار بغداد إلى سلم الطائرة الأردنية، تحت بصر المسئولين، اختطفوا جثمان طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقى الأسبق، زمن صدام حسين، قبل وضعه على الطائرة، دون إبداء الأسباب، وبعد ساعات من الاتصالات الدبلوماسية، سمح للجثمان بالرحيل إلى الأردن، بشرط دفنه هناك دون مراسم تشييع. خطا طارق عزيز إلى الموت عن 79 عاما، كان معتقلا بسجن الحوت جنوبالعراق، قبيل تنفيذ حكم الإعدام عليه، ويكشف اختطاف «جثته» واحتجازها عن حقيقة أنه حتى الموت يمكن أن يتعرض للاعتداء فى العراق. أحوال بغداد وما حولها اليوم، تشبه لحظات الغروب القاتلة وحشرجات الروح على مشارف الزوال فى حياة الأمم،. منذ انفصل رأس «الحسين» عن جسده، برماح الغدر وسيوف الخسة، تمدد الجسد أسفل مئذنة فى كربلاء، جريمة أسست لنعى الحياة وإزهاق البهجة.. الدموع والدم صنوان، لاينفصلان، إذ كيف نلهو ورأس الحسين معلق على رمح، بانتظار «مهدى» يحملُ بيرق الخلاص.. بلاد الرافدين لاترتوى من النحر والدماء، أرض مترعة بالمآسى واللعنات، البطولات والفتوحات. جلجامش فقد حياته بحثا عن الخلود الوهمى، شريعة حمورابى لم توقف المظالم، ما كان اعتباطا أن تولد هناك أسطورة شقائق النعمان» حيث يعود دم الشهداء مطلع كل ربيع، ليذكر الأحياء بتضحيات الموتى فى سبيل المستقبل. لكن الدماء مابين دجلة والفرات أرخص من النفط، دمرت أمريكاالعراق بعد كارثة غزو الكويت، قبل أن تعود وتحتله، سارت واشنطن على خطا التتار، الدمار والحرق والقتل طال البشر والحجر، تراث أعظم الحضارات الزاهرة عبر العصور تهاوى، بعدما أخرج اللصوص من السجون. وحدها «وزارة البترول» حظيت بحماية مشددة.. جيش العراق الذى دوخ الإيرانيين وأفزع غيرهم، تم حله، تبخرت بوتقة الوحدة الوطنية والهوية القومية للفسيفساء الإثنية والطائفية العراقية، انفتحت أبواب الشر قاطبة، تفتت وحدة العراق جائزة ثمينة على موائد اللئام..! من 2003 وإلى اليوم، تسعى أطراف عربية وإقليمية ودولية، بدأب لا ينتهى، لتمزيق العراق أشلاء، طوائف يقتل بعضهم بعضا، الكيان القوى الموحد من المحرمات، يرونه خطرا عظيما. «الدول الجديدة» تولد من رحم العراق الغارب، بمقامع الحرب والدمار والتشريد، عملية قيصرية أمريكية، بمعاونة إيران وتركيا.. العرب يمتنعون يصفقون أو يلطمون- كردستان فى الشمال، شيعستان فى الجنوب، سنستان فى الوسط، المخطط يجرى على قدم وساق، نجاح باهر للشرق الأوسط الجديد وفوضاه الخلاقة، كنا نرفض «سايكس- بيكو»، اليوم نترحم عليها. ولأن النجاح يغرى بالتكرار، انتقلت العدوى إلى سوريا، الدولتان لم يبق منهما سوى رسوم الخرائط القديمة، نورى المالكى رئيس الوزراء السابق أجج الفتن وكرس الطائفية، كرة النار تتدحرج فى الحقل العراقى اليابس الأغصان، الجنرال قاسم سليمانى رجل الظلال فى الشرق الأوسط، هو المعتمد السامى الإيرانى فى بغداد وما حولها، الامبراطورية الفارسية تعود، تحت جلد الهلال الشيعى من طهران إلى المتوسط، وفى مواجهته هلال التطرف السنى والتوحش الداعشى، سقطت توازنات العراق الواحد، غابت المواطنة وحضرت المذهبية، على قاعدة التنابذ لا التعاون فيديراليات سائلة، الدولة الرخوة تتهاوى، هشاشة مفزعة. أغنى بلد عربى: محيط من الذهب الأسود فى بطنه، أنهار وأراض زراعية وقاعدة صناعية، وحضارة تالدة.. هذا سر العظمة، وجوهر المأساة، الداء والدواء، الجميع يقتلون الجميع، يحرقونهم، يذبحونهم، الشعب إما لاجئون أو نازحون، العراقى الهارب من جحيم داعش يحتاج «تأشيرة» أو «كفيلا» ليدخل عاصمة بلاده، ملايين البشر شردوا أو قتلوا خلال العشرين عاما الماضية، تحت سمع وبصر ورضا أمريكا وبمباركة الأسرة الدولية، ذات الضمير الغائب أوالمعوج، العملاء الذين ركبوا السلطة على ظهر الدبابة الأمريكية، يتشاحنون، كل منهم ذيل لطرف خارجى، المالكى والعبادى والجلبى و...و.... هلم جرا، يتدحرجون إلى الدرك الأسفل، فى صفحات التاريخ، سوريا وليبيا وغيرهما استنساخ لذات التجربة، مع تصدع الأوطان وتبخر الحدود. كيف تباع الأوطان بهذه السهولة فى أسواق النخاسة العولمية؟ سؤال يظل ممددا كجسد الحسين، أين السياسيون، أين المفكرون، أين العلماء، والشّعراء والفنّانون؟ الرشيد أراه يبكى بغداده، المتنبى فوق صهوة جواده ينعى فساد الحاضر، «فلا أهل ولا وطن ولا نديم ولا سكن..»، أبوحيان التوحيدى غير آبه بشيء، فلا امتاع ولا مؤانسة، صدام حسين لا حجة للدفاع عن حماقاته، طارق عزيز كان من أخلص مساعديه، فى عصر الديكتاتورية الزاهى بالدماء، عصر مقيت لاشك، لكنه لم يفرق العراقيين شيعا متحاربين، كان القرار العربى ذات يوم فى بغداد.. تسقط الديكتاتورية، نعم.. لكن بعد ضمان سلامة الوطن من هاوية العدم.. الخطأ كل الخطأ أن يظن أحد، فى الشرق الأوسط، أنه بعيد عن السيناريو العراقى، والأمل فى استفاقة مصرية، تنجى العرب مما يراد لهم، قبل أن يغرقوا كافة، فهل نتعظ ونتحرك، بجد بجد، قالها شاعر بغداد سعدى يوسف متألما:»نحن فى عراق العجم ! سأسكن فى مصر العربية»، فالألغام مدسوسة فى كل زاوية، والانفجار العظيم قادم، حتى لو تبدلت الأقنعة، فماذا بعد خطف الأموات سوى خطف الأوطان، ؟!. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن