كانت الساعة تدنو من الخامسة عصرا، ولم يتبق على اطلاق مدفع الافطار سوى ساعتين إلا قليلا، عندما فاجأ الحاج عبد النعيم زوجته وهى تجلس امام الفرن البلدى تخبز و تلملم ماتبقى على صاجها الساخن من أرغفة "العيش الشمسى الصعيدى " ليسألها : أين "البتاو"؟ معقولة اول يوم فى رمضان ولا يكون على الطبلية "بتاو" الاقصر يا حاجة " ربنا مايقطعها عادة يا ام حسين وكل سنة وانت طيبة" .. فابتسمت ام حسين ونظرت وقالت : وحياتك حصل وخبزته من الصبح ياحاج ، ومن فى الاقصر يجرؤ أن ينسى "البتاو " على طبلية اول يوم رمضان ؟ لم يكن هذا الحوار إلا واحدا من عشرات بل مئات الحوارات التى تعيشها آلاف من البيوت المصرية فى قرى ومدن الصعيد والدلتا وربما محافظات الحدود ايضا فى اليوم الاول من رمضان، تأكيدا على تمسك المصريين ولاسيما البسطاء منهم بعادات وتقاليد اول يوم افطار فى الشهر المعظم ورثوها عن الآباء والاجداد وراحوا يورثونها للابناء والاحفاد فى إشارة بالغة الاهمية إلى انه مهما مضت السنون وبلغت الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعى من برامج وطرق واسرار جديدة لفنون والوان واصناف طهى الاطعمة والموائد الرمضانية ، إلا أن كل اهل محافظة بمدنها ونجوعها وقراها مازالوا يتمسكون بعاداتهم القديمة ويحافظون عليها مهما كانت إغراءات هذه البرامج وجوائزها المالية والعنية ، فطبلية حفل استقبال رمضان ستظل وثيقة شهية لها طعم تاريخى ومذاق خاص . ونعود إلى "بتاو" الاقصر الذى مازال سيد مائدة اليوم الاول، وهو خبز يصنع من الذرة العويجة الرفيعة والعيش الشمسى المصنوع من القمح وعيش الفرنتينة المخلوط بالحلبة ومازال يمثل عشق الاقصرية وفرحتهم بقدوم الشهر الكريم ، أما اذا ذهبت جنوبا إلى بلاد النوبة ستسمع عبارة "ميسيه آنه ناليه" أو "يعود رمضان عليكم بالخير".. هى الجملة الأشهر على لسان كل نوبى عند حلول الشهر الكريم، ليبدأ معه سلسلة من العادات والتقاليد الجميلة، والتى تتمسك بها معظم الأسر.. وهناك يستمتع الأهالى، سيدات ورجالا خاصة كبار السن منهم بالحكايات عن تفاصيل العادات النوبية فى استقبال الشهر الكريم ويقولون : " المرأة النوبية تظل مشغولة بتجهيز وإعداد "الأبريه" وهو ما يوضع على عصير الليمون ليكون المشروب الأساسى والرسمى لكل النوبيين فى مختلف بقاع مصر" ويصنع "الأبريه" من خبز رقيق جدًا يخبز على "دوكة من الحديد" ويكسر ثم يوضع فى كراتين حتى يتم استخدامه يوميا مع الليمون ، كما يعد "الكابد" من أشهر مأكولات رمضان عند أهل النوبة، وهى عبارة عن عجين من الدقيق والماء والذى يخبز على دوكة من الطين أو الحديد ليخرج رغيف كبير سميك أشبه بالقطايف الضخمة، .ويستخدم الكابد فى أكل "الأوريه" وهو الورق الناعم من البسلة يفرك ويؤكل مع الكابد وأحيانًا يؤكل مع "الإتر" وهى الملوخية المفروكة، كما يقوم النوبى بوضع العسل الأسود مع السمن البلدى على الكابد لتمثل التحلية بجانب الشعيرية باللبن، وعلى غرة رمضان يطلق اهل الاسكندرية لقب "الرفرافة"، فهو الاسم المشتق من رفرفة أجنحة الطيور، فما من سكندريى إلا ويحرص كل الحرص على أن يكون الطبق الرئيسى على مائدة الإفطار من الطيور " بط - حمام- دجاج- ديك رومى - ..." ، وذلك اعتقادا منهم بأن هذا الطعام سيجلب لهم الفأل الطيب خلال باقى الشهر . وإذا تصادف وألقت بك المقادير وكان إفطارك فى اول يوم على مائدة دمياطية او بورسعيدية ستكتشف ان البط هو الامبراطور الاكبر الذى يحط على كل مائدة او طبلية هناك، فجميع الدمايطة (الغنى والفقير) على تناول وجبة البط وملحقاتها (المارتة والأممة) فى أول يوم ولا يستثنى من تناول البط إلا أصحاب الأعذار القهرية، وتقوم الكثير من العائلات فى الريف بتربية ما يسمى (موسم بط رمضان) للاستخدام العائلى ثم منحه هدايا للأبناء المتزوجين والأقارب، وقد ارتفعت اسعار البط هذا العام بصورة واضحة مقارنة بالعام الماضى، حيث يتراوح سعر الكيلو من 35 جنيها إلى 40 جنيها، وبذلك يصبح سعر أقل بطة للأسرة المتوسطة حوالى 120 جنيها وبحسبة بسيطة نجد أن عدد الأسر الدمياطية يبلغ حاليا أكثر من 400 ألف أسرة يستهلكون البط بقيمة حوالى 48 مليون جنيه أى أكثر من نصف ميزانية المحافظة والتى بلغت هذا العام حوالى 90 مليون جنيه، الطريف أن الوحدات المحلية بمراكز ومدن وقرى هاتين المحافظتين ولاسيما دمياط تعلن حالة من الطوارئ القصوى استعدادا لمواجهة مخلفات "مهرجان البط السنوي" فى أول يوم من شهر رمضان الكريم، أما أهالى بلطيم والذين يتبعون محافظة كفر الشيخ يحرصون على أن يكون من ضمن أطباق المائدة فى أول يوم من رمضان طبق الفول النابت . وتبقى عادة قرية ميت يزيد بالغربية هى الاغرب اذا يتناول اهلها إفطار اليوم الأخير من شعبان وكأنه استقبال للشهر المعظم رنجة وفسيخ ، بينما يشهد اليوم الاخير منه احتفالية جماعية فى المقابر وكأنه وداع للحبيب، ويشترط أن يتضمن الإفطار الحمص والبيض، لكن الامر مختلف قليلا فى سيناء، حيث يقوم شباب ورجال القبائل بتجهيز مجلس الإفطار عقب صلاة العصر، ولابد أن يحضر كل أبناء العائلة ولا يسمح بالتخلف أو العذر إلا فى حالات المرض الشديد أو السفر، وذلك خاصة أول يوم للإفطار . ومن أشهر المأكولات البدوية فى رمضان بسيناء الفطائر المصنوعة من الطحين والسمن، بالإضافة إلى الفتة وفوقها الأرز واللوز وحمص الشام واللحم، و التناول باليد اليمنى، وبدون ملاعق سوى للضيوف فقط، وتترك المائدة ولا يرفع عنها الطعام حتى صلاة التراويح تحسبا لوصول أى ضيف أو مار فى الطريق لم يفطر ، كما لا يتناول البدوى الأسماك، والرأس وأرجل الدبائح بين القبائل والعشائر البدوية خلال هذا الشهر والتى تعتبر "إهانة للبدوى" ، ويكون"المنسف" أشهر طعامهم، و تمتلئ المائدة باللحم والأرز والخبز، فلا ينثر البدوى يديه من بواقى الطعام العالق عقب الانتهاء من تناول الإفطار بل يلعق الطعام من على الأصابع، وينادى الضيف على أهل البيت لغسل الأيدى.