تلقيت دعوة كريمة من الصديق الدكتور «على مبروك» أستاذ الفلسفة المعروف بآداب القاهرة لكى أشارك فى اجتماع مهم لقسم الفلسفة عن أساليب تجديد التدريس الفلسفى وقد رحبت بالفكرة لكونى فى مرحلة التكوين الفكرى المبكرة -قبل دخولى الجامعة- كنت قارئا هاويا للفلسفة بعد أن جذبنى إليها الفيلسوف المعروف «عبد الرحمن بدوى» والذى كان يصدر سلسلة بعنوان «الروائع المائة» نشر فيها ثلاثة كتب قرأتها بشغف عن الفلاسفة «نيتشه» و»شوبنهور» «واشننجلر» وقرأت أيضا كتابا مهما للفيلسوف الألمانى «إرنست كاسيرر» عنوانه «مقال عن الإنسان»، وآخر للفيلسوف البريطانى «ألفرد نورث هوايتهد» «مغامرات فكرية»، بالإضافة إلى كتب فلسفية أخرى. غير أننى بعد التحاقى بالعمل باحثا مساعدا بالمركز القومى لبحوث الاجتماعية والجنائية عام 1957 تحولت لأصبح قارئاً محترفا للفلسفة. وقد شغلنى الفيلسوف الأمريكى «توماس كون» وخصوصا فى كتابه «بنية الثورات العلمية» الذى صك فيه مفهوم «النموذج القياسى» paradigm الذى يعنى إجماع المجتمع العلمى فى مرحلة تاريخية ما على طريقة خاصة فى وضع المشكلات ومناهج محددة لدراستها. وتؤدى اكتشافات العلم المبهرة إلى إسقاط النماذج القياسية السائدة وظهور نماذج بديلة تغير من طريقة إجراء البحوث العلمية. هكذا فعل «ألبرت أنيشتين» حين اكتشف «نظرية النسبية»، وهكذا فعل «أحمد زويل» حين اكتشف «الفيتمو ثانية». سردت تاريخى مع الفلسفة أمام أعضاء قسم الفلسفة بآداب القاهرة والذى يضم بالإضافة إلى رئيسة القسم الدكتورة «رجاء» أصدقاء فلاسفة قدامى هم- بالإضافة إلى الدكتور «على مبروك» -الدكتورة «هالة فؤاد» والدكتور «النشار» والدكتور «عبد الحليم» وعلى رأسهم بطبيعة الحال الصديق القديم من أيام بعثتى إلى فرنسا (1964-1967) «حسن حنفى» صاحب المشروع الفلسفى الممتد، والذى هو أهم مشروع فلسفى معاصر، بالإضافة إلى الوجوه الجديدة من المدرسين والمدرسات والأساتذة المساعدين. والواقع أنه لم يتوقف اهتمامى بالفلسفة حتى الآن، لإدراكى أهمية أن يكون الباحث فى العلم الاجتماعى عليما بالمذاهب الفلسفة المعاصرة. غير أنه تثار بالنسبة للفلسفة أسئلة كبرى لابد لأساتذة الفلسفة أن يبدأوا بالرد عليها. السؤال الأول الجوهرى أثاره الفيلسوف الألمانى الشهير «مارتن هيدجر» فى بحث له أرسله لكى يلقى باسمه عام 1964 فى ندوة عقدتها هيئة اليونسكو فى باريس بمناسبة مرور 150 عاما على مولد الفيلسوف المشهور «كيركجارد»، وكان عنوان البحث المثير هو «نهاية الفلسفة ووظيفة التفكير». (منشور فى كتاب بعنوان «كيركجارد» حيا.. الصادر عام 1969 عن سلسلة «أفكار». ويقول فيه إن الفلسفة قد انتهت بعد تخلق العلوم الاجتماعية فى جنباتها، ومن ثم فليس هناك مجال لتفكير فلسفى مستقل عن العلوم الاجتماعية. والسؤال الثانى هل نحن فى حاجة للفلسفة فى عصر العولمة؟ سبق لى أن بحثت هذا الموضوع فى مقالين نشرتهما فى جريدة الأهرام عام 1996 الأول بعنوان «الكونية وصعود الفلسفة الشعبية، والثانى بعنوان الموقف الفلسفى الكونى». فى المقال الأول كنت أعلق على ظاهرة صدور كتاب للفيلسوف الفرنسى «لوك فيرى» بعنوان «الإنسان- الإله» أو «معنى الحب» سرعان ما أصبح أكثر الكتب مبيعا. والكتاب كان يتناول موضوعا صعبا لأنه يدعو أصحاب الفكر العلمانى الذين طالت حقبة نفيهم للجوانب الروحية للإنسان -باعتبارها خارج دائرة اهتماماتهم مما يحمل فى الواقع تهوينا من شأنها- إلى ضرورة أن يصوغوا مذهبا جديدا يستطيع أن يشبع الحاجات الروحية للإنسان. أما المقال الثانى عن «الموقف الفلسفى الكونى» فقد عددت فيه أسباب أهمية صياغة فكر فلسفى لأن بعض إنجازات الثورة العلمية والتكنولوجية وخصوصا فى مجال الفلسفة الوراثية تثير مشكلات فلسفية عويصة أهمها: ما مدى أخلاقية وخطورة التلاعب بالجنس البشرى من خلال الإمكانية العقلية التى ستتاح فى المستقبل القريب للتحكم فى جنس المواليد وفى ذكائهم بل وفى سماتهم الجسمية؟ وهناك بالإضافة إلى هذه المشكلات مجموعة من الأسباب المتشابكة أسهمت فى صعود الفلسفة من جديد، لعل من أبرزها على الإطلاق التغيرات العالمية. وحين انتقلت إلى المقترحات العملية لتجديد الدرس الفلسفى اقترحت الاهتمام بمنهج «الخرائط المعرفية» الذى يحدد منذ البداية تضاريس ومعالم موضوع فلسفى ما، وكذلك الاهتمام منهجيا بمنهج «تحليل الخطاب» وتطبيقاته المثمرة فى دراسة الخطاب الفلسفى، مع الاهتمام بعلم «اجتماع المعرفة» الذى يحكم الصلة بين النص الفلسفى والسياق الذى ظهر فيه. وكل ذلك مع الاهتمام بتدريب الطالب فى السنة الأولى على بحث الموضوعات المتعددة للعلوم الاجتماعية المختلفة. وقد كان من بين اقتراحاتى الاهتمام بالمشاريع الفلسفية الكبرى التى أبدعها كبار الفلاسفة العرب، وهى مشروعات «الطيب تزينى» وحسين مروة و»محمد عابد الجابرى» و»حسن حنفى» و»ناصيف نصار» و»طه عبد الرحمن». وكل هؤلاء الفلاسفة العرب أنتجوا مشروعات فلسفية كبرى تحتاج إلى بحث متعمق، وأهم من ذلك تحتاج إلى ممارسة النقد الفلسفى الرصين. وفى هذا الاتجاه ضربت مثلا بالندوة المهمة التى نظمها «مركز دراسات الوحدة العربية» فى بيروت ونشرها بعنوان «العقلانية والنهضة» خصصت لنقد مشروع المفكر المغربى الكبير «محمد عابد الجابرى» الذى أخرج لنا سلسلة من الكتب المتعمقة عن «تكوين وبنية المجتمع العربى»، و»بنية الخطاب السياسى العربى»، و»الخطاب الأخلاقى العربى». غير أن هذه المهام تحتاج إلى خريطة معرفية متكاملة للفكر الفلسفى العربى الحديث والمعاصر. وقد قام بهذه المهمة خير قيام الفيلسوف المغربى المعروف الدكتور «عبد الله بلقزيز» أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن بالرباط، والذى نشر له أخيرا مركز دراسات الوحدة العربية كتابا بالغ الأهمية بعنوان «تقييم التراث». هذا الكتاب يصلح فى رأيى أن يكون مرجعا أساسيا لكل دارسى الفلسفة ولكل المثقفين العرب، لأنه يطلعنا -وفق خطة منهجية محكمة- على ظهور وتطور الوضع الراهن لنظريات تجديد التراث. لقد كانت مشاركتى فى اجتماع قسم الفلسفة فى آداب القاهرة مبهجة لى حقا، لأنه أتيح لى أن أتفاعل مع أساتذة الفلسفة الذين يواجهون «محنة» تدريس الفلسفة لأجيال الشباب المغرمين «بالفيس بوك» وما تنشره من مواد سطحية، و»بالتوتير» الذى حلت رسائله القصيرة محل المقالات الرصينة! إنهم فى الواقع كما قال «طه حسين» يوما -وكأنه يستبق الأحداث بثاقب بصره- من الذين يخطفون المعرفة خطفا! مع أن المعرفة الفلسفية العميقة تحتاج إلى التأنى والصبر على قراءة وتفهم النصوص الفلسفية المعقدة!. لمزيد من مقالات السيد يسين