للأسف.. ولحسن الحظ معا أن عرضت هذه المسرحية في ظروفنا الحالية ؟ لانشغال الناس عنها بالشأن العام. فلم تمنحهم تفاقمات الثورة فرصة إلا للفرجة علي تبخر أحلامهم أمام أعينهم. ومن جانب ثان ربما تبدو للبعض تغريبة بعيدة عن واقعنا, لكنها في حقيقتها متصلة بصميم ثورة25 يناير, فهي بحث عن القيم التي بعثرها الجشع الذي هرس كرامة الإنسان, ونهبه بخديعة دعه يعمل دعه يمر, وهو نفس ما دفع الشعب المصري للخروج علي ظالميه وناهبيه. إنها مسرحية من يخاف فرجينيا وولف للأمريكي إدوارد أولبي, التي قدمت أخيرا علي مسرح الطليعة, من إخراج سناء شافع, والتي نتعامل معها كنص. والمسرحية تجدد طرح أحد الهواجس الكبري في التاريخ البشري. ظلم الإنسان للإنسان, طمعا في أشياء أقل شأنا, وهو ما يقسم دخيلته, ويشتته, ويربك منظومته الاجتماعية ويخلط مفاهيمه, فيشعر باغترابه عن نفسه وواقعه, فيمزقه الصراع بين الصحيح والفاسد, الرفعة والتدني, الغرائز والصالح العام. وهي أطول وأفضل ما كتب إدوارد أولبي ضمن أعمال أخري قصيرة, كتبها عام1966 واستمر عرضها الأول في أمريكا لعامين, وأخذ عنها فيلم حقق نجاحا واسعا, ورشح للأوسكار, وللآن يتكرر تقديم العمل, ويدرس أكاديميا في أنحاء العالم. وعنوانها مستلهم من أغنية أطفال اسمها من الذي يخاف الذئب الكبير السيء, وأدخل عليه اسم الروائية الانجليزية فرجينيا وولف في أسلوب يعرض محتوي أذهان الشخصيات المغلوبة علي أمرها والصامتة, وإدوارد أولبي البالغ من العمر84 عاما ويري أن المسرح محاولة مستمرة لتغيير العالم, وأن الحوار الدرامي يجب أن يكون أكثر واقعية من الحياة اليومية, أمتع جمهوره ب كوميدياه السوداء, القائمة علي التناقضات الدخلية للشخصيات, ومزج الواقعي بالمتخيل بالعبثي باللامعقول, والتلميحات اللاذعة طوال النص, والتبدلات الإنسانية المتلاحقة, وهذه الصفات التي أظهرت مهارته ككاتب وأمتعت الجمهور كانت سببا لانتقاده لأنها تؤدي لمبالغة الممثلين في الأداء المسرحي. وذهب رأي نقدي إلي تفسير مسرح أولبي علي ضوء من نشأته, حيث تبناه في طفولته المليونير ريد أولبي وزوجته سيدة المجتمع, اللذان وفرا له حياة سعيدة جدا, لكنه لم يشعر بالانتماء إليها, ووصفها بإنها شيء تمني الهرب منه, وأكد أن التعاسة لم تكن دافعه للكتابة, لكن نشأته مع هذا الوسط الذي يكذب علي نفسه برأيه جعلته يرفض اليمين المتعصب, ورأي منذ بداياته أن أمريكا تعاني أزمة عظيمة أخلاقيا وسياسيا وفكريا, ووجه غضبه السياسي صوب المسرح, ويتحفظ علي نعت أسلوبه بالسخرية باعتباره موضوعيا, واشتهر عنه الإصرار علي التزام الممثلين والمخرجين بتعليماته حرفيا ويمكنه إيقاف العرض ببساطة إذا خالفوها, ويقول:.. هم موجودون ليعبروا عن غرض المسرحية, لا عن أغراضهم الشخصية, فتري ماذا كان سيقول لو رأي العرض من وجهة نظر الفنان سناء شافع. فعرض شافع هو معالجة درامية للنص. وفي هذا العرض قدم لنا أولبي بذكاء جورج الأستاذ ورئيس قسم التاريخ بإحدي الجامعات, وزوجته مارتا إبنة صاحب ورئيس الجامعة, ويبدو جورج براجماتيا لأول وهلة, حيث يغض الطرف عن خيانات زوجته له مقابل بقائه في منصبه لكن الخمر تجلو مشاعره الدفينة وتظهر احتقاره لوالد زوجته, ولزوجته, وربما لنفسه أيضا. لكنه لايفعل شيئا حيال هذا, وبالمقابل فإن زوجته مارتا تستهين به عادة وتحط من قدره أمام الناس, لشعورها بأنه سلعة اشتراها لها والدها بمنصب, لكن الخمر أيضا تجعلها تعترف في لحظات الصدق بقيمته, ما يعكس شدة الصراع بين الكامن والظاهر في نفسيهما. وذات ليلة يزورهما ضيفان شابان نك, وزوجته هني, نك أستاذ البيولوجيا الفخور بفحولته التي يستعرض بها أمام مارتا زوجة جورج, وبكونه أيضا من علماء الوراثة( في نموذج مبكر لما لدينا الآن من هندسة وراثية) التي ستعيد تصنيع الإنسان بيولوجيا بمواصفات قياسية, من حيث اللون والشكل والطول وكل شئ, والتي يسخر منها جورج بقوله: كل واحد سيشبه الآخر, محذرا من استخدام العلم للتلاعب بالإنسان. وهني زوجة نك ابنة رجل دين راكم ثروة من الوعظ ونهب الكنيسة, وهذه الثروة هي التي أغوت زوجها بالارتباط بها. والخمر هنا وحالة السكر التي تتحكم في أبطال العمل علي طول السهرة ليست مقصودة لذاتها بل دلالتها الكشف عن الحقيقة, ومدي الخراب الذي لحق بهم جميعا بسبب الأطماع الشخصية, بالرغم من البريق الظاهري للواقع الذي لا ينطوي سوي علي انهيار نفسي محقق وإحباط مقيم. وتبدت حنكة أولبي في اختيار أستاذين جامعيين, أحدهما متخصص في التاريخ, والثاني في علوم المستقبل التي أصبحت علوم اليوم المتعلقة بال جينوم الذي يمكنه انتاج الإنسان السوبر, وهما يمثلان المجتمع الأمريكي في أرقي حالاته, وتدعمهما زوجتان من طبقة غنية لتكتمل دائرة الدين والعلم, ويبرز السؤال: هل هما قادران وحدهما علي تحقيق سوية النفس الإنسانية, وإيقاف أطماعها الرخيصة, وإهدارها القيم الرفيعة لصالح مكاسب مادية؟. وكأن الحياة أفرغت إلا من الغرائز ودوائر الاستغلال القاسية, فوالد مارتا يوظف علم زوج ابنته جورج في مشروع استثماري, ومارتا نفسها تستهين بطيبته وحنوه وصبره عليها, وتمعن في كسر هيبته أمام ضيفيهما مستندة إلي سطوة أبيها, وهني ابنة رجل الدين تعب كل أنواع الخمور فلا تفيق من السكر. وفي واحدة من ذري النص نفاجأ بأن ثمة ابنا ل جورج ومارتا, لكن المؤلف لا يدعنا نتيقن إن كان ابنا حقيقيا, أم فكرة وهمية توافقا عليها صمتا لتعويض عجزهما عن الإنجاب, في إيحاء مباشر بأن مثل هذه العلاقات علي كل ما فيها من بهرج لا تطرح ثمارا. وظني أن جوهر العمل هوتشيئ الإنسان, وتسليعه, ليكون صالحا للبيع والشراء, وإعلاء البرجماتية فوق منظومة القيم تحت عجلات آلة نهمة لا تترك فتات الخبز ولا القيم لمن راكموا عرقهم فوائض قيمة في جيوب الأغنياء, أولئك الذين اشتروا جورج و نك وحولوهما من علماء إلي أدوات في أيديهم. عرفت أن الفنان الكبير سناء شافع ظل مسكونا بروح هذا العمل لأربعة عقود تقريبا منذ شاهده عام1973بصحبة المخرج أحمد زكي في مهرجان برلين المسرحي, وبقي يخايله من آن لآخر, ولم يهدأ له بال إلا حين جسده برؤيته وأخرجه للمسرح القومي, وكما كان صادقا عبر مسيرته الفنية في الانشغال بهموم وطنه, يظهر هذا العرض اهتمامه بقضايا الإنسان في عمومها, ولأنه يعرف يقينا أن الثورة المصرية هبت لاسترداد الكرامة الوطنية والشخصية, بادر إلي تقديم هذا العمل الجيد ليقول كلمته الجادة بأسلوب فني راق. ويبقي أن نذكر شيئا عن عنوان المسرحية, الذي يبدو عجيبا.. لماذا فرجينيا وولف؟ حقا لماذا؟ إلا أن الذي يعرف المطبخ الفني الذي نشأ فيه أولبي.. سيعرف أن الإجابة هي العجب نفسه, لأن أولبي رغم انشغاله بالواقع ينتمي إلي مدرسة هيمنت علي المسرح الغربي حول منتصف القرن العشرين, وهي مدرسة مسرح العبث أو اللامعقول, ووولف بالانجليزية تعني الذئب. وأغنية الطفل التي أشرنا لها في البداية تقول: من يخاف الذئب الكبير السيئ. زWHOISAFRAIDOFTHEBIGBADWOLF? فجعلها أولبي: WHOISAFRAIDOFVIRGINIAWOOLF? وحول منتصف القرن العشرين كان من المنطقي في المسرح ألا يبدو العنوان, ولا المسرح, منطقيا. هذه مسرحية نطالب بالحرص علي إعادة عرضها دائما لتنشيط وعي الانسان بذاته وواقعه. فتحية لأصحابها وهنيئا لنا.