السؤال الذى يثور الآن داخل مصر وخارجها هو .. هل القضاء المصرى قضاء مستقل أم أنه قضاء مسيس يخضع لمشيئة وإرادة السلطة الحاكمة فى البلاد .. وما هى حقيقة العلاقة بين السلطتين القضائية والتنفيذية وكيف تطورت حتى وصلت إلى الوضع الحالي. للإجابة عن هذه الأسئلة أولا بإلقاء نظرة عامة على لاند سكيب الأوضاع القضائية فى مصر بين الماضى والحاضر .. فنرى أن العلاقة بين السلطتين مرت وقطعت مراحل حافلة بالتقلبات .. زاخرة بالأحداث .. تتعاقب تارة فى هوادة واسترخاء .. وأخرى فى اضطراب وعنف .. وتزامن ذلك مع الحركة السياسية والاجتماعية فى مصر بكل تطوراتها المتقلبة والعميقة. لكن وعلى العموم يمكننا القول إن السلطة التنفيذية كانت تسعى فيما مضى إلى السيطرة والتغول على السلطة القضائية .. كما سعت لأن تتخذ من القضاء منافسا لسلطة البرلمان .. وتكأة تستند إليها فى الانتقاص من منافسها التقليدى المتمثل فى السلطة التشريعية وأيضا أداة لإخضاع خصومها من العناصر الشعبية المعارضة. لكن القضاء سعى دائما إلى المحافظة على استقلاله .. ولم يقبل أن يزج به فى لعبة التوازنات السياسية .. بل كرَّس كل جهوده لحماية حقوق الشعب المصرى وحرياته. وللتدليل على ما تقدم نذكر بعض الأمثلة لاعتداءات كانت قد وقعت فعلا من السلطة التنفيذية على السلطة القضائية لترويضها والسيطرة عليها .. ومن ذلك اعتداء أحد أجنحة ثورة 32 يوليو 2591 على مبنى مجلس الدولة والاعتداء بالضرب ومحاولة قتل السنهورى باشا رئيس المجلس عام 4591 بسبب انحيازه للديمقراطية .. ثم الاعتداء على السلطة القضائية كلها من خلال ما سمى بمذبحة القضاء عام 9691 بسبب تمسك القضاة باستقلالهم ورفضهم الانضمام إلى الاتحاد الاشتراكى والتنظيم السرى الطليعي. وبعدها صرح أحد كبار الوزراء .. نحن نريد التقدم بالبلاد بلا معوقات .. لذا فإن القانون فى إجازة .. ثم تعرض القضاة لسلب بعض اختصاصاته .. وظهرت لجان المصالحات التى يتخلى فيها القاضى عن جزء من هيبته واستقلاله .. كما تم التقتير المالى على السلطة القضائية حتى تقف موقف المستجدى فتنكسر هيبتها. ويسجل التاريخ أن القضاء رفض الخضوع .. وجاءت الأحكام مؤكدة لحقوق الشعب وحريته مع كفالة حرية الرأى وحرية النشر والصحافة وحرية التنقل وحرية التعليم والتأكيد على حرمة الأملاك الخاصة وحظر نزع الملكية إلا بشروط يراقبها القضاء ومنع التأميمات والحراسات ومصادرة التعليم والتأكيد على حرمة الأملاك الخاصة وحظر نزع الملكية إلا بشروط يراقبها القضاء ومنع التأميمات والحراسات ومصادرة أموال المواطنين إلا بحكم قضائي. والتأكيد على الحريات الاجتماعية وحرية العمل والنقابات العمالية وكفالة حق المواطن فى الترشح وفى الانتخابات بطرق عادلة وبلا معوَّقات .. ولقد ألغى القضاء العديد من قرارات صدرت باعتقال مواطنين وعوضهم عن ذلك ماليا .. ووصل الأمر إلى أن بعض قرارات الاعتقال والتحفظ على مواطنين قامت السلطات بطرحها على استفتاء شعبى عام لتحصينها ضد الإلغاء القضائى .. لكن تأتى أحكام مجلس الدولة بأنه حتى الاستفتاء لا يطهر قرارات ولدت منعدمة. ثم يمد القضاء رقابته على السلطات الاستثنائية للسلطة التنفيذية مثل الأحكام العرفية والطواريء .. كما وقد رفض القضاء توسع الحكومة فى نظرية أعمال السيادة ويبطل القضاء عضوية 681 عضوا بمجلس الشعب فى انتخابات عام 0102. ثم جاءت الأحكام القضائية قاطعة فى رفض العبث بالمال العام .. فيرفض القضاء عشرات المشروعات الغامضة المطاطة .. ثم وحينما شعر القضاء أن مصر تستدرج إلى مشروعات قد تؤدى إلى إفلاسها فإذا بالقضاء يحكم بإبطالها .. ويأتى حكم مجلس الدولة عن تخصيص الأراضى فى عقد مدينتى ليعلن أن أراضى مصر بيعت ببخس .. وهكذا ثبت أن فى مصر قضاء فوق الخوف. ولم يكن مثل هذا التوجه القضائى ليغيب عن فطنة الشعب المصرى الذى وفر فى قلبه أن القضاء بالرغم من بعض السلبيات التى يتم تداركها بكل جدية وحسم هو الحصن والملجأ والملاذ .. وأن استقلال القضاء عن الآخرين هو أمر لم يتقرر لصالح القضاء .. بل هو أمر تفرضه مصالح الشعب .. وإليه تؤول نتائجه .. وإلا فكيف يحصل المواطن على حقوقه من قاض تابع خائف .. والحقيقة الثابتة أن استقلال القضاء هو أمان للمحكومين!! وهكذا .. فإن الشعب على علاقة وطنية تبادلية مع القضاء: فالقضاء هو الحامى لحقوق الشعب المصرى دائما .. والشعب المصرى هو الحاضن للقضاء فى وقت المحن. والنتيجة الصافية أن شعب مصر على يقين من أن عدم استقلال القضاء يؤدى إلى انعدام العدالة وانعدام العدالة يؤدى إلى الفوضى .. والفوضى أخطر من الإرهاب. وتأسيسا على وجهة النظر هذه .. فقد دأب قضاء مصر على الجهر ومصارحة الشعب وإعلامه بأى محاولة للنيل من استقلال القضاء فالشعب هو صاحب الحق الأصيل. وعموما ومن أجل القيم السابقة حرص الإعلان الرسمى لحقوق الإنسان الصادر عن الأممالمتحدة فى ديسمبر 8491 على أن ينص فى المادة العاشرة منه على .. أن استقلال القضاء هو حق من حقوق الإنسان .. وتبعه فى هذا المجلس الإسلامى العالمى فى سبتمبر 1891 والميثاق الإفريقى لحقوق الإنسان فى أكتوبر 6891 ولا يكاد يخلو دستور من دساتير الدول من النص على استقلال القضاء باعتباره ركيزة لشرعية الحكم ذاته. ويبقى الآن أن نشير إلى أن كل الذين أهانوا القضاء وحاولوا النيّل من استقلاله .. دارت عليهم أيامهم وانقلب عليهم زمانهم .. فاضطروا للجوء إلى القضاء وهم يتوجسون خيفة من أن ينتقم منهم القضاء لكنهم وجدوا منصة القضاء عادلة مترفعة عن الصغائر .. وتأكدوا أن فى مصر قضاء عادل شامخا لا انتقاما ظالما. ومرجعية القضاة فى هذا الشأن تتمثل فى الآية القرآنية الكريمة:«لئن بسطت إلى يدك لتقتلنى ما أنا بباسط يدى إليك لأقتلك إنى أخاف اللَّه رب العالمين». لمزيد من مقالات المستشار محمود العطار