حينما كتب قاسم أمين كتابه «تحرير المرأة» عام 1899، لم يكن يتوقع أنه بعد بضعة عقود سوف تقف مجموعة من الفتيات على ناصية أحد الشوارع لتركبن سيارة ميكروباص مع رجال وشباب لا يعرفونهم قاصدين التوجه إلى الجامعة. فلقد واجه حملة شديدة أعقبت صدور كتابه، حيث صدر 200 كتاب للرد عليه فى أقل من عامين. اتهم فيها بأنه عميل للغرب، وخارج عن صحيح الدين، وعربيد، وأقسى هذه التهم هو أنه مجنون يهزى. أتخرج البنت من بيتها لتتعلم؟ وتخرج المرأة لتعمل وتزاحم الرجال فى الأماكن العامة؟ كان هذا الأمر يبدو أنذاك من رابع المستحيلات. هذا السيل من الهجوم كان كفيلا بأن يصيب أى إنسان بالإحباط، أو يدفعه إلى الاعتذار، ولكن رد فعل قاسم أمين كان مثيرا للإعجاب، يوحى بأن شخصيته قد صيغت من معدن صلب، فقد كتب كتاب «المرأة الجديدة» يطالب للمرأة بحقوق أكبر بكثير مما طرحه فى الكتاب الأول، فدعى إلى مخالطتها للرجال فى المجالس، ومشاركتها فى الحياة العامة والسياسية. أما كيف تحقق ما كان يطالب به قاسم أمين، فهو وضع أسهم فيه السياق العام لتطور البشرية كما أسهمت إرادات أفراد مستنيرين من ذوى القدرة على اتخاذ القرار. فيما يخص الظرف العام، لم يكن هذا الوضع المهمش للمرأة يخص مصر والبلاد العربية والإسلامية وحدها، بل كان يسود العالم كله، حتى أن أول كتاب طالب صراحة بتحرير النساء كان كتابا للفيلسوف الإنجليزى جون ستيوارت مل، بعنوان «فى استعباد النساء» عام 1869. وهذا يعنى أن الدين الإسلامى لم يكن مسئولاً عن هذا الوضع المتدنى للمرأة، فقد كان هو وضعها فى مختلف المجتمعات البشرية على اختلاف أديانها. وحينما بدأت مسيرة تحرر المرأة، كانت مسيرة عالمية، بدأت فى الوقت نفسه فى مختلف الثقافات فى العالم. ولكن كيف يتحول هذا التحرر من مجرد شعار أو أمنية إلى واقع عملى؟ فهذا أمر آخر.. فلا يمكن للمرأة أن تتحرر إلا إذا تعلمت، وكانت الحكومة المصرية فى بداية القرن، تشجيعاً للتعليم، تدفع خمسين قرشا دعما سنويا لشيوخ الكتاتيب عن كل صبى يتعلم، وحينما تولى سعد زغلول نظارة المعارف أصدر أمراً بأن تدفع الحكومة خمسين قرشاً عن كل ولد، وجنيه عن كل بنت. فاندفع شيوخ الكتاتيب يقنعون الأسر بضرورة تعليم بناتهم، وفى سنوات قليلة تضاعفت نسبة البنات المتعلمات. وكان إنشاء الجامعة المصرية خطوة فى طريق استقلال مصر، ليكون لمصر أطباؤها ومهندسوها ومفكروها، وتطلعت البنات إلى دخول الجامعة، ووجد رئيسها أحمد لطفى السيد نفسه فى مأزق كبير: لو طرح على المجتمع فكرة قبول البنات فى الجامعة، لانهالت عليه القوى الرجعية بنفس التهم التى وجهتها لصديقه قاسم أمين، ولقتلت المشروع فى مهده، ولو رفض دخول البنات لأصبح مفكرا رجعيا متواطئا على تخلف هذه الأمة، ووجد لطفى السيد الحل فى أن يقبل البنات بالجامعة سرا، ليتفادى نيران الجهلاء وأصواتهم الزاعقة. اتفق العائدون من البعثات الدراسية من باريس على أن تكون رسالتهم هى العمل على تحرير المرأة المصرية إيماناً بشعار أستاذهم لطفى السيد: «علينا أن نحرر أمهاتنا قبل أن نحرر أوطاننا» وأسس هؤلاء الفرسان الثلاثة: محمد حسين هيكل ومنصور فهمى وطه حسين جريدة السفور الأسبوعية، وكانت تجربة فريدة فى الصحافة، سياسة واقتصاد وآداب تدور كلها حول محور واحد هو تحرير المرأة واستمرت لأكثر من عشر سنوات. كل هؤلاء رجال، ولكن جهد النساء كان وأهم وأكثر فاعلية. لأن الرجال يكتفون بالفكر وبإعلان الموقف، ولكن النساء يناضلن بالسلوك، وبفرض أنفسهن فى الجامعة والمصنع والشارع. ولكننا نشكو فى العقود الأخيرة من سيطرة خطاب دينى فى المساجد ووسائل الإعلام يطالب بعودة المرأة إلى البيت ومنع الاختلاط، وإزاحة المرأة من مواقع العمل لتخفيض بطالة الذكور، بل وامتد الأمر إلى الإصرار على إقرار التمييز ضد المرأة فى الدساتير، فلقد خاض رجال النهضة وأعوانهم فى تونس معركة طالت شهوراً ليكتبوا فى الدستور أن المرأة مكملة للرجل بدلاً من تعبير المرأة مساوية للرجل. ونتذكر عندنا المعارك التى كانت تخاض ليقر الدستور زواج القاصرات. كان الجميع يستنتج أننا قد عدنا إلى الوراء، ولكن حينما ننظر إلى الواقع العملى نجده يشهد بعكس ذلك. فلقد كانت نسبة البنات المسجلات فى الجامعة المصرية فى فترة السبعينيات لا تتجاوز 35% من إجمالى الطلاب، أما اليوم وحسب إحصائيات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، فإن عدد الطالبات يمثل 49% من الإجمالى العام، وعدد الخريجين فى عام 2011/ 2012 من الطالبات يمثل 53% من الإجمالى العام. لأول مرة نسبة خريجى الجامعة من البنات أكثر من الذكور. مازال أمام المرأة الكثير، وما زالت هناك صور من التمييز موجودة حتى فى قلب العالم الغربى نفسه. وبمناسبة يوم المرأة العالمى، تواصل نساء العالم مسيرتها المظفرة نحو المساواة مع الرجل، ولا يليق بنا مهما تكن الحجج والمبررات أن ندير ظهرنا ونسير فى الاتجاه المضاد لمسيرة البشرية. لمزيد من مقالات د.انور مغيث