السياسة الخارجية لمصر, لا تحتمل الانتظار, حتي يتبلور لها شكل متكامل, فمصر كانت سنوات طويلة مضت, فاقدة لاستراتيجية السياسة الخارجية, تتعامل علي أساسها مع دول العالم, وفي إدارة مصالحها في الخارج. وقبل الدخول في صلب هذا الموضوع الحيوي والعاجل, تظهر لنا اشارات لافتة للنظر منها علي سبيل المثال, ما صرحت به هيلاري كلينتون من أن مصر لا توجد بها حاليا جهة تنفيذية, لها سلطة تحديد سياسات الحكومة. وصدور أقوال مشابهة من عواصم أوروبية, تتعلل بعدم تنفيذ وعودها بالمساندة الاقتصادية لمصر بعد الثورة, بسبب كثرة تغيير الحكومات في فترات قصيرة, وهو ما لا يوجد أمامها سلطات تنفيذية تتعامل معها. وهذه التصريحات, لا تعبر عن هذه الظاهرة في حد ذاتها, بل هي تعبير عن شيء أعمق من ذلك بكثير, فالمسألة لا تتعلق بوزير أو آخر, لكنها تتعلق بمنظومة فكر سياسي, يتحرك أي وزير أو حكومة, داخل اطارها المحدد. والسياسة الخارجية ليست استثناء من هذا الوضع, فليس لديها حتي الآن الأساس الذي تبني عليه, وهو ما يعرف بالمبدأ أو المفهوم doctrine للسياسة الخارجية. إن المفهوم في السياسة الخارجية, هو عبارة عن معمار فكري أو هو نوع من الهندسة السياسية يقوم بتأسيس قائمة من المبادئ الأولية للسياسة الخارجية, والتي تتضمن: ترتيبا لأولويات السياسة الخارجية وتوضيحا للطبيعة الراهنة للعالم وشكله وعلاقاته ومكان الدولة فيه وتحديد المهمة التي تتولاها السياسة الخارجية, من خلال توجهات ثابتة للأجل الطويل. وتوجهات متغيرة ومرنة للأجل القصير, تستجيب لما قد يستجد في العالم من أوضاع, وبدون اخلال بثوابت المعمار الفكري لاستراتيجية الدولة, وذلك كله مبني علي استراتيجية أمن قومي معترف بها. هذا المفهوم يظل فاقدا الطاقة التي تحركه, إذا لم تكمله شروط أساسية, أولها أن يكون للدولة هدف وطني واضح, يحشد وراءه الرأي العام. وثانيا, إن هذا الوضوح للهدف, سيكون دائما المفتاح لتعامل الدول الأخري معك, سواء كانوا أصدقاء أو خصوما. أي أن الأساس الذي تقوم عليه السياسة الخارجية, هو استراتيجية أمن قومي, تحدد رؤية مصر لمعني أمنها القومي, والقواعد التي تتعامل بها مع التغييرات التي تحدث في مفاهيم الأمن القومي للدول الأخري, وهو ماشهدناه في السنوات الأخيرة. وكان من أهم أسباب غياب الوعي بها في السنوات الماضية, إنعدام وجود استراتيجية أمن قومي لمصر. والملاحظ أن ثورة 25 يناير, قد أحدثت تأثيرات ملموسة, دفعت قوي دولية واقليمية, إلي اعادة النظر في توجهات سياستها الخارجية, وما ينبغي عليها تعديله فيها, بينما لم تتبلور لمصر حتي الآن, وفي سنة التشتت الفكري والسياسي 2011 سياسة خارجية لها مفهوم استراتيجي متكامل, فالثورة قلبت تقديرات وحسابات ونظريات القوي الغربية, عن النظام الدولي القادم, والذي كانت قد استقرت تقديراتهم, علي احتساب الدول الصاعدة اقتصاديا في آسيا وأمريكا اللاتينية, لتكون شريكا في إدارة النظام الدولي. ولم يأت أي ذكر لمصر ضمن هذه القوائم, التي جري حولها نوع من التوافق, في بيانات, ودراسات, وتحليلات مراكز استراتيجية, ومؤسسات اقتصادية عالمية, فضلا عن آراء معلنة لقادة وزعماء. وبالرغم من أن عددا من هذه الجهات, لايزال لديه احساس بعدم اليقين, بالنسبة لما ستصل إليه نتائج الثورة في مصر, وموجات الربيع العربي, إلا أنهم متفقون علي أن ما جري هو تيار تاريخي, لا يمكن أن يتوقف دون استكمال أهدافه, ومن هؤلاء ويليام هيج وزير خارجية بريطانيا الذي وصف الثورة بأكبر حركة اصلاحية في القرن الحادي والعشرين, وأن نتائجها ستكون هائلة علي المستوي الدولي, وهو رأي عبر عنه بنفس المعني ماسيمو داليما وزير خارجية ايطاليا السابق وهذا توجه اتفق عليه ساسة وخبراء, في أمريكا وأوروبا, عبر عشرات المؤتمرات والحلقات الدراسية. إن المضمون الذي يلزم أن تراعيه السياسة الخارجية, لابد أن يتنبه للتغيير في مفاهيم الأمن القومي للدول, والأمن العالمي للمجتمع الدولي ككل, وما حدث لديهم من ربط بين السياسة الخارجية, وبين ما يجري داخل دول في منطقتنا, بشأن الديمقراطية, وحقوق الإنسان, والأمن الإنساني, إيمانا منهم بأن المساس بهذه القيم, يلحق ضررا بأمنهم القومي مهما بعدت المسافات. إن العصر الذي نعيشه الآن, يشهد بدايات اعادة صياغة التحالفات, والتجمعات الاقليمية, بدافع من المصالح, خاصة الاقتصادية, وقد لاحظت كيف أن العلاقات التاريخية بين الولاياتالمتحدة وأوروبا, بدأ يشوبها الضعف, وهو ما تحدثت عنه شخصيات أوروبية مسئولة. وكان محل دراسات في مراكز سياسية في أوروبا, مع ظهور اتجاه أمريكي نحو تشكيل علاقات جديدة في آسيا, وهو ما عبرت عنه هيلاري كلينتون بأن هذه المنطقة من العالم, ستكون قاطرة السياسات العالمية مستقبلا. وكنا قد شهدنا في السنوات العشر الأخيرة, اعادة ترتيب العلاقات الاقليمية في آسيا, باقامة حلقات تكامل اقتصادي بين الصين, مع دول مازالت تعد حليفة للولايات المتحدة, كاليابان وكوريا الجنوبية. إن قوة دفع الثورة في مصر, وموجات الربيع العربي, وما هو محتمل من تكاملها سياسيا, يدعو لإمكان صياغة استراتيجية للسياسة الخارجية, تبلور من الآن خططا للتكامل الاقتصادي الحقيقي, والتفكير في الوقت ذاته, في أشكال مكملة للتعاون, الذي تتعدد دوائره, ولا يقتصر علي دائرة واحدة. فنحن في عالم قد تغير, وليس هو ما كان بالأمس البعيد أو القريب. ولا مدخل إلي هذا إلا باستراتيجية أمن قومي, وبصورة عاجلة. المزيد من مقالات عاطف الغمري