هل تصبح الحرب الاقتصادية, في المستقبل القريب, بديلا عن الحرب التقليدية بالوسائل العسكرية؟ هذا الطرح أخذ يتردد في السنوات القليلة الماضية وهو ليس ضربا من التخمينات, لكنه يقوم علي تغييرات جرت في العشرين سنة الماضية, في المفاهيم المعروفة عن قوة الدولة, والأمن القومي, ولأن إدارة الدول, ورسم السياسات, هي انعكاس للفكر السياسي المستقر, والمسلم به, بناء علي تجارب الدول, والتحولات الكبري في العالم. ويستند الفكر السياسي المعاصر حول الدولة وعلاقتها بالاقتصاد, الي التداعيات التي أعقبت سقوط حائط برلين, وانهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية عام 1989, وما رصده المفكرون من ان هذا السقوط لم يكن مجرد نقطة تحول في موازين القوي الدولية, لكنه كان نقطة تحول في مفهوم الاقتصاد. والذي كانت أول مظاهرة, إعلان نهاية الأيديولوجية كمحرك للسياسة الخارجية, وأن يستبدل بها حافز المنفعة, وهو الوصف الذي أطلقه في ذلك الوقت, شفرنادزه وزير الخارجية السوفيتي, والذي قصد به المصالح الاقتصادية. ثم ما برهنت عليه التجارب الناجحة للدول التي نهضت اقتصاديا في آسيا, من أن إنجاز القدرة الاقتصادية, أصبح المحرك الرئيسي لسياسة الدولة. لقد استقر في الفكر السياسي في العالم, في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين, ان القدرة الاقتصادية التنافسية, قد صعدت الي قمة مكونات الأمن القومي للدولة. وصاحب ذلك تغيير تعرض له مفكرون سياسيون لهم ثقلهم في العالم في مكونات قوة الدولة, والتي كانت تتصدرها القدرة العسكرية, ليصعد الي جوارها, العنصر الاقتصادي, وهو ما صعد بقوة ومكانة ونفوذ الدول الناهضة اقتصاديا في آسيا, من الصين الي ما حولها من دول آسيوية. أن الثورة المصرية (2011), قد أزاحت الستار السميك, عما سببه النظام السابق من إضمحلال في مكونات قوة مصر. وهو ما أنتج تدهورا في الداخل, سري في شرايين الدولة: الاقتصاد زراعة وصناعة والتعليم والصحة والبحث العلمي وإسكان البسطاء, والكرامة الوطنية. فصارت الدولة طاردة لأبنائها, بينما هي تملك المقومات التي تجعلها مركز جذب. كما أزيح الستار عن تهافت في الفهم الأستراتيجي لقيمة مصر وقدراتها تاريخا, وجغرافيا, وبشرا. فكان التراجع في دورها الإقليمي, وتواجدها المؤثر في عمقها الأستراتيجي, بأبعاده المختلفة. والآن ليس أمام مصر لاستعادة مكانتها ودورها, سوي ان تمسك أسباب القوة, في هذا العصر, وأول عناصرها القدرة الاقتصادية. وهذه مسئولية يتحملها صانع القرار الحكومة والرئيس المنتخب والبرلمان. لقد ضاع منا عام المرحلة الأنتقالية, دون أن يظهر في إدارة الدولة, أي تصور لمشروع ينهض بالدولة, ويتواءم مع ظروف الزمن الذي نعيشه, بعد أن استهلكت طاقة المرحلة الأنتقالية في الأنفلات الأمني, والاضطراب الاقتصادي, والتشوش السياسي, فكان أن غابت تماما أي رؤية لمشروع قومي للنهضة, أو حتي خطط قصيرة المدي توضع موضع التنفيذ العاجل, لحل المشكلات المعيشية التي تفجرت مرة واحدة. وإذا كنا نتحدث عن القدرة الاقتصادية, فينبغي ألا يغيب عن البال, أن أي مشروع للتنمية الاقتصادية, لا يقدر له استكمال نجاحه, إذا لم يضع علي رأس أولوياته, مبدأ العدالة الاجتماعية. فهو الآن العنصر الحاكم, في نجاح أي خطة. أن أي مشروع للتنمية في هذا العصر المختلف, لابد له من فكرة ملهمة ينطلق منها, تتجاوز بالخيال الخلاق حدود التفكير التقليدية, وهو ما فعلته دول عديدة, تصرفت في إطار الزمن المتغير, وفي حدود الخصائص القومية للدولة وشعبها. ومنها علي سبيل المثال, تجربة لي كوان يو في سنغافورة الذي حول دولة فقيرة في أواخر الستينات, إلي دولة غنية, يساوي دخل الفرد فيها, نظيره في أغني الدول البترولية. ولم تكن في بلده أي موارد علي الاطلاق. وهذه قصة لها تفاصيلها وليس هذا مجالها. إن الظروف الاقتصادية التي تمر بها مصر, رغم صعوبتها وقسوتها, ليست شيئا غير مألوف في تجارب دول أخري, مرت بمراحل تغير جوهري, من نظام سياسي, الي نظام مغاير كلية, لكن الطاقة الجارفة في الصدور, والتي صنعت ثورة 25 يناير, لن تجعل المصريين يقنعون بثورة لم تكتمل, بعد كل التضحيات التي قدمت. ولما كانت الثورة هي مشروع متكامل, يتحرك بقوة دفع طاقة ذاتية متجددة, فإن مثل هذا المشروع لابد ان يكون إبن زمنه, ونتاج عصره, فلكل عصر فلسفته, وقواعد عمله, ومحور أساسي يدور حوله. هذه مهمة قد تستدعي وضع كثير من الأفكار التقليدية علي الرف, وإطلاق الخيال وابتداع وانتاج الأفكار, وهو طريق سلكه الناجحون. وكانت له عندهم نقطة بداية. هي تنظيم حوارات, في شكل ورش عمل, ينتظم فيها الخبراء وأهل العلم والمعرفة, من مختلف التوجهات, والتخصصات, وتوزع علي كل مجموعة قضية, تناقشها, وتنتهي فيها إلي مقترحات وخطة عمل. وتقوم مجموعة أخري بجمع كل هذه الخطط, في إطار استراتيجية شاملة, قابلة للتنفيذ كعمل قوي للنهضة. بشرط ألا تتحول الجلسات إلي دردشات, وطباعة أوراق توضع في الأدراج. نقلا عن صحيفة الاهرام