حبست أوروبا أنفاسها، ليس فقط حدادا على ضحايا الهجوم الإرهابي الذي استهدف مقر تحرير صحيفة «شارلي إبدو» الساخرة في باريس وأسفر عن مقتل 12 شخصا .. ولكن خوفا من تكرار العمليات الإرهابية بعد أن أعادت الصحيفة نشر الرسوم المسيئة! ولقد جاءت جريمة باريس البشعة لتؤكد أننا جميعا مسلمين ومسيحيين بحاجة إلي ما هو أكثر من الشجب والإدانة أو إبداء التعاطف، فالعدو واحد، ولم يعد لدينا أو لديهم وقت لدفن الرءوس في الرمال. فالغرب الأوروبي لم يتوان عن انتهاز أي فرصة للتعظيم من شأن الأقليات وإيواء العناصر الإرهابية لإثارتها ضد الحكومات القائمة في أي بلد إسلامي بدعوى الحريات وحقوق الإنسان. على الجانب الآخر وبسبب الخطاب الديني المتشدد الذي ساد أخيرا مع انتشار الفكر المتشدد على أيدي المتاجرين بالدين، غاب عن حياة المسلمين في الغرب فقه الواقع وفقه الأولويات والمقاصد وفقه الأقليات الإسلامية. فما تعانيه هذه الأقليات في الغرب من مشكلات متعددة في مختلف مناحي الحياة، يؤثر على الدور الذي تلعبه هذه الأقليات، ودرجة تأثيرها في مجتمعاتها. وجعلها أرضا خصبة لنمو الفكر المتطرف داخل التجمعات الإسلامية في الكثير من الدول الغربية، بعد أن تجاهلت الدول العربية ومؤسساتنا الدينية المسلمين في الغرب. فهل تتكاتف أوربا مع مسلميها لمواجهة هذا الإرهاب أم تضعهم تحت الاشتباه وتفرض عليهم مزيدا من العزلة عن المجتمع الذي يعيشون فيه؟ وهل نحن بحاجة إلى التعاون مع الغرب لمحاصرة الإرهاب وتضييق الخناق علي الرءوس المدبرة التي تعيش في أوربا وتحرك ثقافي ديني لتوعية المجتمعات الغربية؟ وما دور الأزهر والمؤسسات الإسلامية في نشر الدعوة والتآخي والثقافة الصحيحة للإسلام؟ والى متى سيستمر هذا التجاهل من جانبنا ويظل الغرب ملاذا آمنا للإرهابيين المقيمين على أراضيه تحت دعوى الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان؟ دور الأزهر وحول دور الأزهر في توضيح صورة الإسلام في الخارج، يقول الدكتور عباس شومان، وكيل الأزهر، إن الحملة التي تستعد مشيخة الأزهر لإطلاقها بالدول الغربية تحت شعار «دعوة للتسامح » تهدف إلى إظهار سماحة الدين الإسلامي وإظهار حقيقة رسالة الإسلام التي جاء بها سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم نبي الرحمة للعالم، كما يجرى الآن الإعداد لنشر سلسلة من الكتب العلمية بعدة لغات للتعريف بالقيم الإسلامية التي تدعو لنشر الخير والتسامح والتعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم، والتأكيد على مكانة الرسول عليه الصلاة والسلام وأخلاقه الكريمة التي تدعو للتسامح والعدل والمساواة بين البشر جميعا والرحمة للجميع مسلمين وغير مسلمين، وكذلك تكثيف انتشار علماء الأزهر في كل أنحاء العالم للتأكيد على هذه القيم والرد على كافة الاستفسارات المتعلقة بحقيقة الدين الإسلامي وخاصة في المجتمعات الغربية فى المنتديات والمؤتمرات والجامعات ،بالإضافة إلى دعم كل مبادرات التقارب والتفاهم بين المسلمين وغيرهم. وأوضح شومان، أن هذه الحملة ستعمل على إظهار حقيقة سماحة الإسلام وعظمته وقيمه النبيلة الخالدة التي يسمو بها الزمان والمكان، وتستوعب الآخر وثقافته وتهذب منها وتصلح من شأنه وشأنها حتى لو بقي بعيدا عن دائرة الإسلام من دون التعرض للمتطاولين وأفعالهم، مؤكدا أن هدف المبادرة نابع من الفقه الإسلامي الذي شرع عهود الأمان ومنحها للجميع دون تفرقة مع غير المسلمين، ليختلطوا بالمسلمين ويتعايشون معهم فيقفوا على محاسن الإسلام وقيمه من خلال سلوك أتباعه وليس كما يظن كثير من الناس زيادة موارد بيت مال المسلمين، أو إذلال وإهانة غير المسلمين. التواصل مع الأقليات تلك المبادرة وحدها لا تكفي فواقع الأقليات الإسلامية في الغرب وما تعانيه من مشكلات أكبر من ذلك بكثير كما يقول الدكتور محمد نجيب عوضين، أستاذ الشريعة بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، وهي تعاني الكثير من المشكلات أهمها عدم اهتمام العالم الإسلامي بأوضاع هؤلاء المسلمين وقضاياهم، لذا يجب تمتين الروابط والصلات بين الأقطار الإسلامية وهذه الأقليات، والاستفادة منها في تكوين قوة ضغط هائلة على صانع القرار الغربي بالذات، إذا أُحسن تنظيمها والاستفادة منها، كما يمكن أن تكون هذه الأقليات خطوة متقدمة في الحوار بين الإسلام والحضارات الأخرى، وبالخصوص الحضارة الغربية، والتصدي للدعايات الصهيونية. وطالب الحكومات والمنظمات الإسلامية بأن تقوم بعملية استنفار إسلامي واسعة لدعم هذه الأقليات والاستفادة منها، وإقامة الندوات والملتقيات الفكرية المكثفة في الأقطار التي يعيشون فيها لتصحيح الصورة المغلوطة عن الإسلام، وإقامة المعارض، وتشجيع الزيارات المتبادلة بين الأدباء والمفكرين المسلمين وأبناء هذه الأقليات، وتشجيع النشاط الإعلامي الإسلامي في الغرب، شريطة إعطاء اهتمام آخر بتنشئة الجيل المسلم الثاني في الغرب تنشئة إسلامية، وتشجيعه على تعلم اللغة العربية. كما طالب بتفعيل دور المراكز الإسلامية في الغرب وإعادة فتحها وإرسال القوافل الدعوية شريطة أن يكون هؤلاء أصحاب باع طويل في الفقه والشئون الدينية وأن يكونوا من أصحاب اللغات لنشر الفكر الإسلامي الوسطي. وأن تكون هناك قناة فضائية ناطقة بكل اللغات تحت مظلة الدول الإسلامية علي رأسها مصر، لتوضيح صورة الإسلام والمسلمين المغلوطة ولا نترك الساحة لهؤلاء التكفيريين وان تربط هذه القناة مع المراكز الإسلامية تحت إشراف الأزهر الشريف تقوم بحل قضايا الأقليات وربطهم بأوطانهم ولا نتركهم فريسة للتيارات المتطرفة التي تسىء للإسلام. والأهم من كل ذلك كما يرى الدكتور نجيب عوضين - تفعيل دور الخارجية وخصوصا مساعد وزير الخارجية لشئون الأقليات بالتعاون مع الأزهر الشريف في توعية وتثقيف الأقليات المسلمة بالخارج ونشر الدين الإسلامي الصحيح وتفعيل ركن المؤلفة قلوبهم وعدم ترك الساحة لبعض الدول ذات الطابع المتشدد التي تعتنق مذاهب متشددة ولاستغلال حاجات هؤلاء المادية. وطالب بضرورة تراجع الدول الأوروبية عن إيواء وحماية الجماعات الإرهابية بدعوى حماية حقوق الإنسان واستغلالهم سياسيا للضغط علي الحكومات وأن يكون هناك إنصاف في التعامل مع الأقليات تحت قانون واحد والمساواة بين الأديان حتى لا تؤجج المشاعر. وتساءل عوضين : كيف يحاكم من ينكر جرائم االهولوكست ولا يحاكم من يسىء للدين الإسلامي مؤكدا أن الإرهاب صنيعة الغرب التي يستخدمهما في الوقت المناسب. الدول الغربية راعية للإرهاب ويري الدكتور محمد إسماعيل البحيري، أستاذ العقيدة بجامعة الأزهر، أن الدعم الذي تقدمه الدول الغربية للجماعات الإرهابية هو السبب الرئيسي في انتشار الفكر التكفيري وظهور «داعش» بحجة الدفاع عن الحريات ولاستغلالهم ذريعة للتدخل في شئون البلاد بحجة القضاء علي الإرهاب وتشجيع الخلايا النائمة والقاعدة الذين انتشروا بشكل كبير في الفترة الأخيرة ولكن ما حدث في فرنسا هو مثال حي علي المثل القائل انقلب السحر علي الساحر، أضف إلي ذلك أن فرنسا التي تنادي بحرية الرأي لم تعترف حتى الآن - بأن جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية. كما طالب بضرورة أن تتمتع الأقليات بسلامة العقيدة والفكر وقوة التمسك بالأخلاق والقيم؛ لأن الجماعات الإسلامية خارج العالم الإسلامي مظلومة في جميع حقوقها سواء العقدية أو السياسية، وكلما كانت الأقليات في الخارج متماسكة عقدياً وأخلاقيا كان ذلك أقرب إلى التأثير الإيجابي في البيئة والمحيط الذي تعيش فيه، أما إذا ضعف كيانها بسبب غياب الوعي الديني فإن ذلك سيؤدي إلى انسحابها من ميدان التفاعل الحضاري، وعدم مقدرتها على التأثير بالمجتمعات المحيطة بهم وتصبح فريسة سهلة للتكفيريين والقاعدة. وطالب المؤسسات الدينية في مصر والعالم بأن تساند هذه الأقليات بالمال والكوادر البشرية والخبرات. فيجب الاهتمام بهذه الأقليات، وتأصيل سبل التعاون معها، واعتبارها وسيطاً أو جسراً لترسيخ القيم الإسلامية؛ فعن طريقها تتهيأ الأرضية المناسبة لحوار هادف بنّاء، مبنيّ على الاحترام المتبادل، والكلمة الطيبة، وبأسلوب حضاري يخدم الإنسانية، ويشجع على التفاهم الفكري والثقافي في العالم؛ لأن الأديان والثقافات الحضارية تدعو إلى المحبة والإخاء والسلام والتفاهم والتسامح. الدفاع عن حقوق الأقليات وطالب د. البحيري بأن يكون هناك اتصال دائم بين العالم الإسلامي ومنظماته والمراكز والمؤسسات الإسلامية في الغرب، للدفاع عن حقوق الجاليات المسلمة، خاصة حرية الاعتقاد وممارسة العبادات، وحقها في الحياة كبشر، والمساواة أمام القانون، والتنسيق معها لتفعيل دورها في تغيير الصورة الخاطئة عن الإسلام لدى الغرب، ومحو هذه الصورة، وإبراز محاسن الإسلام وسماحته. وعلاج ذلك يتطلب إقامة مؤسسات وقفية لخدمة أبناء الأقليات، وإنشاء مؤسسات استثمارية خاصة، وتفعيل بعض المؤسسات القائمة. كما لابد من إيجاد مؤسسات تنسيقية بين المنظمات والجمعيات والمراكز الإسلامية في دول المهجر، إضافة إلى الحاجة لإيجاد إعلام سياسي فاعل، والاستفادة من الوسائل القائمة من صحافة وإذاعة وتليفزيون وإنترنت, وضرورة التواصل السياسي والاقتصادي لأبناء الأقليات المسلمة مع الأمة الإسلامية. وتساءل البحيري أين المنظمات والحكومات مما يحصل للمسلمين في بورما؟! الحاجة إلى فقه جديد الدكتور محمد رأفت عثمان عضو هيئة كبار علماء الأزهر وعضو مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا، يؤكد أن مرونة الشريعة جعلها تستوعب كل مستجدات العصر، وعلى الرغم من ذلك فإن المسلمين الذين يعيشون كأقليات في مجتمعات غير إسلامية يواجهون بعض المشكلات التي تتعلق ببعض جوانب الحياة الدينية لأن لكل مجتمع قضاياه المختلفة وبخاصة مجتمعات الغرب وهي مسائل تدور حول قضايا الأحوال الشخصية وحل الأطعمة وحرمتها والتساؤلات التي تدور حول موقف الإسلام من تجنيس المسلم بجنسية البلد الذي لا يدين بالإسلام وما حدود الولاء لذلك البلد؟ والرد على المستشرقين وغيرهم بشأن ما يثار عن الإسلام بأسلوب علمي ودراسات وأبحاث متخصصة، لتوضيح وشرح مفاهيم الإسلام السمحة للناس في الغرب لأن الحملات المغرضة الموجهة للإسلام في الغرب هدفها تشويه صورة الإسلام والمسلمين في العالم، وبلا شك فإن وراء هذه الحملات عدم فهم دقيق لمبادئ الإسلام السمحة التي تدعو لاحترام حقوق الإنسان وحريات الشعوب، فالإسلام يكرم الإنسان بصرف النظر عن لونه أو جنسه أو الدين الذي ينتمي إليه.