لماذا تقدم الدراما بشكل عام، والمسرح بشكل خاص أعمالا مستوحاة من التاريخ؟ بالطبع ليس بهدف تسجيل التاريخ وطرحه بحذافيره أمام المشاهد، لأن هذا دور المؤرخين في وقت وقوع الأحداث، أو الباحثين المحققين فيما بعد لكن المسرح يتناول التاريخ أو يعيد قراءته عادة بهدف الاستفادة في الحاضر والمستقبل من أحداث الماضي، بمعني بعث وإحياء اللحظات المضيئة من تاريخنا الطويل، وتجنب إعادة المراحل المظلمة التي اتسمت بالفساد والخيانة أو الديكتاتورية. وهذا ما قصده الكاتب الكبير الراحل محسن مصيلحي.. أحد شهداء المسرح المصري في حادثة بني سويف.. عندما كتب نص باب المدينة الذي عالجه المخرج الدكتور عاصم نجاتي ليحمل رؤية معاصرة ومواكبة للأحداث الجارية تحت عنوان «تحيا مصر»، والعنوان لا يحمل فكرة الهتاف الجماهيري الشهير، ولا يحمل أيضا الإشارة إلي حملة الرئيس المصري الحالي عبدالفتاح السيسي، الذي أنقذ مصر من كارثة محققة، ولكن العنوان يشير إلي كيفية تجاوز مصر لأزمات في الماضي، وكيف ينبغي أن تعيش متجاوزة مشكلات وأزمات مشابهة في الواقع الراهن. تدور أحداث المسرحية حول فترة انتقال الحكم في الخلافة الإسلامية من المماليك إلي العثمانيين، وهي فترة يشهد التاريخ المكتوب والمحقق بأنها كانت دموية مليئة بالمكائد، وبالخونة الذين لم يعملوا للوطن، أو لمصلحة الرعية، وكل الولاة والبكوات يشبهون كثيرا رجال البيزنس الفاسدين الطامعين في نهب ثروات البلاد عن طريق التقرب للحكام، وما عرف بزواج المال بالسلطة، لهذا قدم عاصم نجاتي أحداث تلك الفترة متدخلا بطرح رؤيته الساخرة، ثم متوقفا قبل نهاية العرض يطرح علي الجمهور تغيير التاريخ الذي يشي بالهزيمة والخيانة، ووقوع مصر في أيدي الأتراك، مصرا علي أن قراءة التاريخ ليست بهدف الحفظ والاسترشاد دائما، وإنما أحيانا بهدف النقد والتعلم من أخطاء الماضي. قدم أحمد ثابت أداء راقيا في دور طومان باي المملوك العاشق للوطن، والرافض للاستسلام وجني المكاسب من العثمانيين علي حساب البسطاء من أهل مصر، وتميز بأداء تراجيدي جاد ومبهر في وسط أجواء عرض يغلب عليه الطابع الكوميدي، لكنه مع ذلك نجح في إثبات حضوره وإمكاناته كممثل واعد، وأدت جيهان سلامة دور فاطمة المشخصاتية التي تقدم بابات التمثيل في خيال الظل، وترمز إلي الوطن الذي يحبه الجميع، ويغتصبه المماليك الطامعون، كما أثبت الدكتور عاصم نجاتي إمكاناته كممثل كوميدي ناجح من خلال أداء شخصية العجمي الهلفوت المجاور دائما للحكام، وتألق محمد نشأت في دور توفيق العيار الممثل البسيط لخيال الظل الذي يتحول في لحظة الخطر للقوة والشهامة في محاولة الدفاع عن زميلته فاطمة، كما ظهر ممثل واعد هو أحمد ماجد في دوري خوش قدم وابن مصيلحي، وتجاوب الجمهور مع خفة ظل محمد عبدالرشيد في دور قنصوة الغوري، والشاب الواعد أحمد نسيم الذي فجر الضحكات في شخصية سيد صفطاوي أو «س ص» كما لقب نفسه داخل العرض، وبالطبع اكتسب العرض جاذبيته وتألقه بفضل ديكورات وأزياء دكتور محمود سامي، وأشعار المتألق د. مصطفي سليم، وألحان الموهوب هشام طه، وغناء الفنان ماهر عبيد، واستعراضات مايكل فايق. والعرض.. الذي قدم علي مسرح الهناجر كأول تجربة تحت قيادة د. أماني يوسف.. يؤكد ببساطة أن مصر قادرة علي أن تحيا وتستمر برغم مؤامرات الطامعين، وهو ما يجعلنا نردد مع عاصم نجاتي وأبطال المسرحية: تحيا مصر.