كنت قد نوهت في مقال سابق الي امكانية تجاوز نص الاعلان الدستوري الذي لم يتعرض لمسألة تكليف الحزب الفائز بالأغلبية في البرلمان بتشكيل حكومة, والآن تشير تطورات الأحداث وفضيحة تسفير المتهمين الأجانب في قضية التمويل الأجنبي الي ضرورة السير الي أبعد مدي في تفعيل روح الاعلان الدستوري من خلال الاسراع بنقل المسئولية التنفيذية الي من فازوا بثقة الشعب في البرلمان وهو ما ينادي به حزب الحرية والعدالة بتشكيل حكومة ائتلافية تستطيع تحمل المسئولية في هذا الظرف التاريخي الصعب. وطالما أن الدكتور كمال الجنزوري قد قالها بملء الفم وبكل الثقة أنه يحمل صلاحيات رئيس الجمهورية, فلا عذر له أمام هذه الفضيحة التي صدمت الشعب المصري والتي أهانت القضاء المصري وحملته فوق طاقته وأكثر مما يحتمل.. وعلي السيد رئيس الجمهورية أن يتحمل تبعات تهريب المتهمين الأجانب في قضايا المنظمات المدنية وأن يتقدم باستقالته فورا, وذلك رغم ايماني السابق بضرورة اعطاء الرجل فرصته الكاملة في ادارة هذه الشهور المتبقية من الفترة الانتقالية انطلاقا من أنه ليس لدي المصريين أي ترف للحديث عن استقالة حكومات وتوزير حكومات جديدة كل بضعة أيام. وتظل القناعة كاملة بعدالة قضية التمويل الأجنبي وبأن السكوت عنها أيام الحكم الفاسد السابق لم يكن سببا وجيها ليبرر مزيدا من السكوت في اعقاب الثورة المصرية والتي كان من أهم أهدافها الخروج من تحت عباءة الوصاية الأمريكية ومباركتها لمشروع التوريث.. تلك القناعة تؤكد أن التدهور الحاد الذي وصلت اليه القيمة المصرية في أوساط الاقليم وعلي المستوي العربي والعالمي انما كان نتيجة مباشرة لمخطط طويل المدي بدأ بالصلح المنفرد مع اسرائيل تحت ضغط واغراء امريكي أسفر عن انسلاخ مصر من محيطها العربي والاسلامي وارتماءها في أحضان الولاياتالمتحدةالأمريكية تحت زعم الرخاء القادم حتما نتيجة ذلك السلام الوهمي الذي اتاح لاسرائيل فرصة العربدة الكاملة عسكريا وسياسيا, والتبجح بالقول بأنها الأولي بقيادة المنطقة الشرق أوسطية بعدما ما جرب العرب السير وراء مصر وانتهوا الي ما انتهوا اليه من كوارث ونكبات. المقابل الهزيل الذي منحته امريكا المعونة الأمريكية فتحت أبواب جهنم علي مصر التي أصبحت سداحا مداحا أمام الاستخبارات الأمريكية والغربية والاسرائيلية وطوابيرهم في الداخل المتدثرة بالعباءة المصرية.. وقضي هذا التخاذل علي مقدرات الدولة المصرية ومقوماتها الأساسية, وقد بدا هذا واضحا في تلك المخططات الشيطانية لافلاس واضعاف وانهاك مؤسسات القطاع العام التي تمكنت رغم كل ما فيها من اخطاء وفساد من قيادة الاقتصاد المصري عبر نحو ثلاث عقود ومن تمويل الأعباء المالية الضخمة لأربع حروب مع الحفاظ علي مستوي آدمي للحياة لجميع ابناء الشعب المصري.. ولم يكن من نتيجة للانقياد وراء العجلة الأمريكية سوي فقدان هذه المؤسسات الضخمة وضياع الرؤي الوطنية الصادقة حتي افلست الزراعة المصرية في انتاج رغيف الخبز الذي أصبح علي المصريين أن يتطلعوا يوميا الي آفاق البحار العريضة ينتظرون سفينة من وراء المحيطات تأتي اليهم برغيف الخبز الذي بالكاد يسد رمق أيام معدودة.. ناهيك عن تدمير ملايين الأفدنة الزراعية وفقدان زراعة وصناعة القطن التي كانت تمثل الميزة النسبية الوحيدة للصناعة المصرية. الكلام يطول ويطول والمحصلة النهائية أن مصر قد وقعت في براثن الشيطان حتي جاءت ثورة يناير وكانت الفرصة للخلاص من كل القيود التي فرضت علي مصر الكنانة فرضا قسريا وقهريا. في قضية التمويل الأجنبي واختراق منظمات المجتمع المصري بما يهدد الأمن القومي لهذا الوطن المنكوب, كانت الفرصة سانحة لاسترداد الكرامة المهدرة وسد الثغرات أمام مخططات الفتن والقلاقل التي تهدد الوحدة المصرية التي شكلت أقدم دولة في التاريخ الانساني.. كانت الفرصة سانحة للوقوف وقفة صادقة مع الصديق الأمريكي يعرف من خلاها أن مصر قد تغيرت وأن الساعة لن تعود مرة أخري الي الوراء.. كانت هناك فرصة لكبح جماح هذه المنظمات الحقوقية المصرية التي استغلت مناخ الضعف والوهن الذي اصاب الدولة المصرية وراحت تعمل لحساباتها الخاصة ولتذهب مصر وأهلها الي الجحيم.. كانت هناك فرصة لابلاغ الصديق الأمريكي رسالة مؤداها أن الصداقة لا تعني علي الاطلاق الاذعان, وأن هناك دولة مصرية محورية تلتقط انفاسها لتقوم من جديد من تحت ركام الفساد والدمار الذي حل بها علي مدي الأربعين عاما الماضية.. كانت هناك فرصة للتأكيد علي حرص مصر والمصريين علي علاقات وثيقة مع واشنطن تقوم علي الاحترام المتبادل وتحقيق المصالح المشتركة دون فرض الوصاية. كان ظني أن الحكومة المصرية وقد افاقت من النوم وقررت تحكيم القضاء العادل في كارثة الاختراق الأجنبي للمنظمات المصرية, سوف تتمسك الي المدي الأخير لاطلاق السلطة القضائية في ممارسة دورها ليكون ذلك تدشينا حقيقيا لدولة سيادة القانون.. وكذلك كان يقيني أننا في مصر لسنا علي أدني استعداد للدخول في مواجهة مباشرة مع اقوي دولة في العالم, وعلي ذلك فقد كان الظن أن هناك عقولا مصرية راشدة تعرف كيف تتحرك وكيف تفرض رؤيتها وكيف تناور الي أن تصل الي ما يحقق الصالح الوطني العام. كان الظن أن القضاء سوف يسير مركب العدالة الي مرساه الطبيعي, ثم يكون القرار بعد ذلك سياسيا ومن سلطة رئيس الجمهورية لمنع التصادم مع الولاياتالمتحدة.. كأن يصدر قرار بالعفو أو بتخفيض العقوبة بما يوازن بين العدالة وبين المصلحة العليا.. وقد خابت كل هذه الظنون أمام فضيحة من الوزن الثقيل لا يمكن أن تحتملها الثورة المصرية.! المزيد من مقالات محمد السعدنى