بدماء الشهداء وأحلام البسطاء باتت تونس قاب قوسين أو أدنى من الانتقال من مرحلة فوران الثورة وما شابها من بعض الفوضى إلى مرحلة إتمام بناء مؤسسات الدولة، فها هو عام 2014 يمتطى صهوة جواده الجامح، ويلملم أوراقه القليلة المتبقية شارعا فى الرحيل إلى عالم الماضى يشهد على الخطوة الأخيرة فى بناء الديمقراطية التونسية الحديثة بجولة الإعادة على مقعد الرئاسة بين الباجى قائد السبسى (نداء تونس)، والمنصف المرزوقى (المؤتمر من أجل الجمهورية). وها هى تونس كما كانت مفجرة ثورات الربيع العربى، تعود لتحرز قصب السبق بالانتهاء من الفترة الانتقالية بإرساء مؤسسات الدولة لتكون نموذجا يحتذى فى التطور الديمقراطى، ساعدها فى ذلك حالة التوافق الوطنى المخلص التى قدمتها القوى السياسية على اختلاف مشاربها الأيديولوجية، فقد اختارت جميع تلك القوى التراجع للخلف خطوة أو أكثر عن تحقيق أهدافها الضيقة لتتقدم تونس الدولة خطوات نحو المستقبل. البداية كانت فى 14 يناير2011 بإجبار الرئيس زين العابدين بن ، على ترك الحكم والبلاد، وتم إجراء أول انتخابات برلمانية فى أكتوبر من العام نفسه فاز فيها حزب "حركة النهضة" ذو التوجه الإسلامى ب90 مقعدا، وشكل ائتلافا إسلاميا علمانيا حاكما عرف ب"بالترويكا" مع حزبى "المؤتمر من أجل الجمهورية" و"التكتل من أجل العمل والحريات" قاد البلاد على مدى أكثر من عامين. لكن "الترويكا" فشلت وتراجع حضورها الشعبى، بسبب بطء وتيرة الإصلاحات، وعدم تحقيق الوعود الانتخابية فى التشغيل والتنمية، وضمان الاستقرار الأمنى، كما فشلت فى التصدى للعمليات الإرهابية، مما جعل قطاعا كبيرا من التونسيين يعتقد أنها غير قادرة على إدارة البلاد وتأمين الاستقرار وتحقيق التطور الاقتصادى المنشود. وفى تلك الأثناء ظهر حزب "نداء تونس" العلمانى على الساحة السياسية (مارس 2012) بزعامة السبسى، الذى تألف من أنصار الحزب الحاكم فى عهد بن على وعدد من رجال الأعمال ووجوه النخبة المثقفة المنادين بإحياء تجربة الحبيب بورقيبة، واستطاع بالتحالف مع أحزاب أخرى معارضة للترويكا أن يشكل قوة ضغط، ونجح فى تعبئة التونسيين للقيام بتظاهرات للمطالبة بالمحافظة على مكتسبات الحداثة فى تونس، ودعا إلى استقالة حكومة الترويكا وحل المجلس التأسيسى، ساعده فى ذلك اغتيال بعض الرموز السياسية كشكرى بلعيد ومحمد البراهمى، واستقالة الكثير من نواب المجلس التأسيسى, فى حين رفض أنصار الترويكا ذلك، ورأوا فيه محاولة للانقضاض على الحكم، وتشبثوا بالشرعية الانتخابية. ومع انسداد الأفق السياسى على الساحة التونسية برز بفاعلية الدور المؤثر لمنظمات المجتمع المدنى التى قل نظيرها فى المجتمعات العربية، وعلى رأسها اتحاد الشغل الذى ساند الحراك الاحتجاجى للمعارضة وأيد المطالبة برحيل الحكومة، لكنه لم يقبل بنسف المسار الانتقالى جملة وتفصيلا، ودعا لبقاء المجلس التأسيسى لحين إتمام كتابة الدستور وتحديد مواعيد الانتخابات المقبلة، وتبنى مبدأ الحوار فى معالجة الملفات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ورعى اتحاد الشغل بالتنسيق مع الاتحاد العام للصناعة والتجارة، وعمادة المحامين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان حوارا وطنيا استطاعوا من خلاله تجميع القوى السياسية حول مائدة التفاوض، وأدار الرباعى باقتدار مشاورات بين حكومة الترويكا وأحزاب المعارضة أفضت لخريطة طريق التزمت بها القوى السياسية. وآتت خريطة الطريقة أولى ثمارها بالموافقة على الدستور الجديد فى يناير 2014، وفى أكتوبر الماضى أجريت الانتخابات البرلمانية وكانت المفاجأة حلول "نداء تونس" فى المقدمة ب86 مقعدا مستفيدا من تراجع شعبية "النهضة" الثانى ب 69 مقعدا، وفى نوفمبر الماضى جرت الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية التى أفضت لجولة إعادة بين السبسى والمرزوقى. ويحسب لحركة النهضة بزعامة الغنوشى تنازلها عن السلطة إلى حكومة تكنوقراط مؤقتة لإدارة الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وتخليها عن المطالبة بكون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، وهما تنازلان حافظا على التوافق وجنبا تونس الكثير من الأزمات، كما أنهما حافظا للحركة على البقاء على الساحة السياسية، ومنحاها قبلة الحياة، مستفيدة من الأخطاء التى وقعت فى تجارب أخرى عجلت بنهاية حكم الإسلاميين. إلا أن نجاح التجربة التونسية فى عام 2015 وخلال الفترة المقبلة يبقى رهينا بقدرتها على إعادة الاعتبار إلى الدولة باعتبارها الضامن للحقوق والحريات وإقرار السلم الأهلى، والعمل على إتاحة الفرصة للشباب للمشاركة فى الحياة السياسية بعد الإحجام الكبير لهم خلال الانتخابات، كما يتعين عليها مواجهة المخاطر الأمنية التى تتهددها خارجيا وداخليا، متمثلة فى مكافحة الإرهاب الذى يهدد السلم الاجتماعى والوحدة الوطنية، ويحول دون تحقيق النهضة الاقتصادية المرجوة، لأن استتباب الأمن يمثل حجر الزاوية فى عودة السياحة الخارجية التى يعتمد عليها الاقتصاد التونسى بالدرجة الأولى، والذى تأثر كثيرا خلال سنوات الثورة.