سعر سبيكة الذهب وزن 50 جراما اليوم.. اعرف آخر تحديث    حدث ليلا.. مفاجأة مدوية بشأن مكان السنوار وضربة جديدة لنتنياهو    توفيق عبد الحميد يكشف عن حقيقة تدهور حالته الصحية    متى وقت أذكار الصباح والمساء؟.. «الإفتاء» تكشف التفاصيل    درجات الحرارة اليوم الخميس 04- 07- 2024 في مصر    بعد سنة على إطلاقها، ثريدز تسجل 175 مليون مستخدم نشط شهريا    أحمد ياسر ريان: أنا أفضل من كهربا وزيزو    أبرزها دواء الضغط.. زيادة أسعار 3 أدوية في الصيدليات    مواعيد مواجهات ربع نهائي أمم أوروبا يورو 2024 والقنوات الناقلة    اشتباكات وقصف مدفعي إسرائيلي على مخيمي «الشابورة» و«دوار النجمة» في رفح الفلسطينية    نشرة ال«توك شو» من «المصري اليوم»: كريم عبد العزيز ل عمرو أديب أنا أهلاوي مجنون بحضور تركي آل الشيخ .. مفاجأة من وزير التموين للمواطنين بشأن الدعم على البطاقات التموينية    جيش الاحتلال يعلن مقتل ضابط في كتيبة تابعة للواء جفعاتي خلال معارك شمال غزة    موعد إجازة رأس السنة الهجرية واستطلاع هلال شهر المحرم    ناقد رياضي: متفائل بالتشكيل الوزاري وأدعم استمرارية أشرف صبحي في وزارة الرياضة    تراجع سعر الفراخ.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية اليوم الخميس 4 يوليو 2024    دراسة: أغلب الأوربيين يساورهم الشك في قدرة أوكرانيا على هزيمة روسيا    وزير السياحة والآثار: نستهدف الوصول ل 30 مليون سائح بحلول 2030    محافظ الدقهلية: العمل الميداني سر نجاح أي مسئول وقيادة.. ونعمل على حل مشاكل المواطنين ومحدوي الدخل    فرنسا تسحب نوع "كوكاكولا" بسبب مخاطر صحية: لا تشربوه    مفاجأة من وزير التموين للمواطنين بشأن الدعم على البطاقات التموينية (فيديو)    مع تصاعد الحرب في غزة ولبنان.. الشرق الأوسط يجلس على برميل بارود    6 نصائح للعناية بالأسنان والحفاظ عليها من التسوس    إصابة طفل وانهيار جزئي لعقار مجاور.. تفاصيل سقوط عقار بالحي القبلي في شبين الكوم    مصرع طفلين شقيقين غرقا في كفر الشيخ    العثور على شاب مصاب بطلقات نارية في ظروف غامضة بقنا    عبدالرحيم علي يهنئ المحافظين الجدد ونوابهم    عمرو أديب الزمالك «نمبر وان».. وكريم عبدالعزيز يرد: أنا اهلاوي مجنون (فيديو)    حظك اليوم برج الجوزاء الخميس 4-7-2024 مهنيا وعاطفيا    قصواء الخلالي: الحكومة الجديدة تضم خبرات دولية ونريد وزراء أصحاب فكر    ميمي جمال: أنا متصالحة مع شكلي وأرفض عمليات التجميل    قصواء الخلالي: افتقدنا للأيادي القوية غير المرتعشة.. والحكومة الجديدة تضم خبرات دولية    التشكيل الوزاري الجديد، مدبولي يعقد اليوم مؤتمرا صحفيا بالعاصمة الإدارية    فولكس ڤاجن تقدم أقوى Golf R فى التاريخ    دعاء استفتاح الصلاة.. «الإفتاء» توضح الحكم والصيغة    أول ظهور لحمادة هلال بعد أزمته الصحية    ملف يلا كورة.. قائمة الأهلي.. تعثر الزمالك.. وموقف بيراميدز من المنتخب الأولمبي    عبد الرحيم علي يشكر الوزراء والمحافظين الذين غادروا مواقعهم    «تاتا» توقف العمل ببريطانيا    أول رد سمي من موردن سبوت بشأن انتقال «نجويم» ل الزمالك    ميدو: المنتخب الأولمبي «بيشحت» لاعبيه من الأندية    "مين كبر ناو".. شيكو يحتفل بعيد ميلاده    ميسي مهدد بالغياب عن مباراة الأرجنتين ضد الإكوادور في كوبا أمريكا 2024    وزراء خارجية روسيا والصين ومنغوليا يناقشون التعاون في المجالات الاقتصادية    لميس حمدي مديرا لمستشفى طلخا المركزي    أمين الفتوى: لا ترموا كل ما يحدث لكم على السحر والحسد    الكويت تعلن اعتقال مواطنين بتهمة الانضمام لتنظيم محظور    أبرز مشروعات وزير البترول الجديد بالقطاع الحكومي.. تعرف عليها    في أول تصريح صحفي له، محافظ بورسعيد الجديد يوجه رسالة إلى اللواء عادل الغضبان    حدث ليلًا| موعد إجازة رأس السنة الهجرية وحالة طقس الخميس    رئيس مجلس الوزراء يعلن موعد إجازة رأس السنة الهجرية    والدة شاب تعدى عليه بلطجي بالمرج تكشف تفاصيل الحادث    فحص نشاطها الإجرامي.. ليلة سقوط «وردة الوراق» ب كليو «آيس»    مصرع طفل غرقا داخل نهر النيل بقنا    هاني سعيد: نحاول فصل لاعبي بيراميدز عن الأحداث.. وينقصنا عامل الجمهور    اتحاد الصناعات: وزارة الصناعة تحتاج لنوعية كامل الوزير.. واختياره قائم على الكفاءة    عمرو خليل: اختيار الوزراء في الحكومة الجديدة على أساس الكفاءات والقدرة    أستاذ استثمار عن التغيير الوزاري: ليس كل من رحل عن منصبه مقصر أو سيئ    تعيين عبلة الألفي نائبة لوزير الصحة والسكان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعريَّةُ الحيَاةِ اليوميَّةِ وَالخِطَابِ الشِّفاهىِّ فى تجربةِ رياض الصَّالح الحُسَين
نشر في الأهرام اليومي يوم 07 - 12 - 2014

تُعدُّ تجربَةُ الشَّاعرِ رياض الصَّالح الحُسَين (1954- 1982) ، واحدةً منْ التَّجاربِ الشِّعريَّةِ الأسَاسيَّةِ ، الَّتى قادَتْ إلى المَشْهَدِ الشِّعريِّ الرَّاهنِ باشتغالاتِهَا الجَمَاليَّةِ المَائزةِ ؛ المُتمثِّلةِ فى احتفائِهَا بجَمَاليَّاتِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ المَعِيشَةِ الدَّالةِ ؛ بسرديَّاتِهَا المُعَاصِرَةِ ، وَتفاصِيلِهَا الحَيَاتيَّةِ المَعِيشَةِ ، وَأدائِهَا الشِّفاهيِّ الحَيِّ الحَمِيمِ وَنَبَرَاتِهَا الشَّخصِيَّةِ ، وَخُروجِهَا على وثنيَّةِ اللغَةِ الشِّعريَّةِ، وَكيميائيَّةِ التَّعبيرِ الشِّعريِّ ، وَتَعَدُّدِ شَفَرَاتِ النَّصِّ.
وَرِياض الَّذى لمْ يمكُثْ فى دُنيَانَا أكثرَ منْ ثمانيَةٍ وَعِشْرينَ عَامًا، هُوَ واحدٌ منْ حلْقَةِ شُعَرَاء أسَّسوا هذَا التَيارَ فى مَشْهَدِ الشِّعريَّةِ العَرَبيَّةِ الجَديدَةِ، فى سُوريا، مُتخلِّصِينَ منْ ضَجيجِ الأيدلوجيِّ وَالمِيتَافيزيقيِّ وَالذِّهنيِّ، المُحِيطِ بهِمْ: عَاكِفيْنَ على اليوميِّ وَالشَّخصِيِّ وَالشِّفاهيِّ لِصِيَاغَةِ خطابٍ شِعريٍّ جديدٍ، ضَمَّتْ هذِهِ الحلْقَةُ مجموعةَ أصْوَاتٍ شِعريَّةٍ ، يأتى فى طليعتِهَا: بندر عبد الحميد ، ومُنْذر مِصْرى ، وعادل محمود ، وكانَ رياض أصغرَ شُعرَاءِ هذِهِ الحلْقَةِ ، وَكانَ لهذَا التَّيَّارُ حضورٌ آخرٌ فى الشِّعريَّةِ الجديدَةِ فى لبنانَ ، بَرَزَ فى نصوصِ وديع سعادة ، ثم بسَّام حجَّار ، وَالفلسطينيِّ المُقيمِ بلبنانَ حينئذٍ أمجد ناصِر .
وُلِدَ رياض فى درعا ، وَعَمِلَ فى مركز الدِّرَاسَاتِ الفلسطينيَّةِ فى دمشقَ ، وَقدْ مَنَعَهُ الصَّمَمُ وَالبَكَمُ منْ إكمَالِ دراسَتِهِ ، وَكانَ قدْ أصِيْبَ بالصَّممِ فى عامِ ، عَقِبَ عمليَّةٍ جِرَاحيَّةٍ فى الكليتيْنِ 1967 ؛ فدَأبَ على تثقيفِ نفسِهِ بالتَّجاربِ العَرَبيَّةِ الجديدَةِ وَالمُترجَمَةِ ، وَاضطُرَ إلى العَمَلِ مُبكِّرًا ، وَتُوفِّيَ فى مستشفى المُوَاسَاةِ ، بدِمشقَ ، عَصْرَ يوم 12 / 11 / 1982 بسبب قُصورٍ فى عَمَلِ الكليتيْنِ ؛ نَجَمَ عنْه توقُّف عَمَلِ القلْبِ .
أصْدَرَ رياض فى حياتِهِ ثلاثَةَ دواوين ، هيَ : خَرَابُ الدَّورةِ الدَّمويَّةِ : 1979- أسَاطيرُ يوميَّةٌ : 1980- بسيطٌ كالمَاءِ ، وَاضِحٌ كطلقَةِ مُسَدَّسٍ : 1982، وَصَدَرَ الرَّابعُ ، وهو أبرَزُ هذِهِ الأعمَالِ ، عَقِب وفاتِهِ ، تحتَ عنوانِ : وَعْلٌ فى الغَابَةِ : 1983 ، وَبالإضَافةِ إلى هذِهِ الأعمَالِ الشِّعريَّةِ ، كَتَبَ رياض القِصَّةََ القَصِيرَةَ ، وَالمَقَالةَ ، وَكَتَبَ للأطفالِ ، وَفى النَّقدِ الأدبيِّ .
وَبمُنْجَزِهِ الشِّعريِّ يقَعُ رياض فى قلْبِ الحَلْقَةِ السُّوريَّةِ السَّبعينيَّةِ ، الَّتى أرْسَتْ جماليَّاتِ شِعريَّةِ اليَومِيِّ وَالشَّخصِيِّ وَالشِّفاهيِّ البَسِيطِ ، فى مَتْنِ الخِطَابِ الشِّعريِّ الجديدِ لِلْقَصِيدِ النَّثريِّ ، وَمُبكِّرًا ، عنْ مُعْظَمِ المَشَاهِدِ الشِّعريَّةِ العَرَبيَّةِ المُجَاورَةِ ؛ فَجَعَلتْ الهَامِشَ مَتْنًا ، وَانتصَرَتْ لتفاصِيلِ الحَيَاةِ المَعِيشَةِ ، وَسَرْديَّاتِهَا الحَيَاتيَّةِ ، وَشَوَاغلِهَا الشَّخصِيَّةِ الحَمِيمَةِ ، وَيَتَبَدَّى هذَا النُّزوعُ فى العنوَانِ اللافِتِ للمَجْمُوعَةِ الشِّعريَّةِ الثَّانيَةِ لرياض : " أسَاطيْر يومِيَّة ".
وَيَعْكِسُ خِطَابُ رياض وَلَعَهُ ، فى المَرْحَلَةِ المُبَكِّرَةِ منْ تجربتِهِ ، بحضورِ الأيدلوجيا فى بنيَةِ الخِطَابِ الشِّعريِّ ، ويبدو صَوْتُ رياض فى هذِهِ الحَالةِ كأنَّهُ يُعَمِّقُ تيَّارَ محمَّد المَاغُوط ؛ بنبرتِهِ الحَادَّةِ المُتمَرِّدَةِ وَمنظُورِهِ الأيدلوجيِّ وَلُغتِهِ السَّاخِطَةِ ، الَّتى تَجْمَعُ فى دفعتِهَا الأيدلوجيَّةِ شَظايَا التَّفاصِيلِ اليوميَّةِ ، بأدَاءٍ لغويٍّ شِفاهِيٍّ تقريريٍّ ، وَاليومِيُّ فى هذِهِ الحَالةِ ليْسَ فى أهميَّةِ الأيدلوجيِّ ، وَإنْ كانَ رياض أكثرَ جنوحًا إلى شِعريَّةِ اليَومِيِّ وَالمَعِيشِ ، وَالنَّبرَةِ البَاطِنيَّةِ ، وَأقلّ ضَجيحًا منْ المَاغُوط ؛ الَّذى قدَّمَ أقْصَى عَطَاءاتِهِ الشِّعريَّةِ عَبْرَ ديوانيْهِ الأوَّليْنِ : حُزْنٌ فى ضَوْءِ القَمْر : 1959 ، وَ: غُرْفةٌ بمَلاييْنِ الجُدْرَانِ : 1964.
يتبدَّى هذَا النُّزوعُ ، لدَى رياض ، فى قولِهِ :
" يَا سُوريَّا الجَمِيلة السَّعيدة
كمِدْفأةٍ فى كانونَ
يَا سُوريَّة التَّعِيسَة
كعَظْمَةٍ بيْنَ أسْنَانِ كَلْبٍ
يَا سُوريَّة القَاسِيَة
كمِشْرَطٍ فى يدِ جَرَّاحٍ
نحنُ أبناؤكِ الطيِّبونَ
الَّذين أكلْنَا خُبْزَكِ وَ زيتونَكِ وَ سِيَاطَكِ
أبدًا سَنقودُكِ إلى اليَنَابيعِ
أبدًا سَنُجفِّفُ دَمَكِ بأصَابعِنَا الخَضْرَاءِ
وَ دموعَكِ بشِفَاهِنَا اليَابِسَةِ
أبدًا سَنشُقُّ أمَامَكِ الدُّروبَ
وَ لنْ نتركَكِ تضيعِيْنَ يَا سُوريَّة
كأغنيَةٍ فى صَحَرَاء . "
بالنَّبرَةِ الخَطَابيَّةِ التَّقريريَّةِ الجَهِيرَةِ الحَارَّةِ ، المَوْرُوثَةِ عنْ المَاغُوطِ ، تَحَوَّلَ رياض ، بالتَّدريجِ ، إلى أدَاءٍ يخُصُّهُ :
" سَأقِفُ، أيضًا، سَأقِفُ
لأُحَدِّثكمْ عَنِّي
مِثْلَمَا يتحدَّثُ الدِّيكتاتورُ عنْ سجونِهِ
وَ المليونيرُ عنْ مَلايينِهِ
وَ العَاشقُ عنْ نهديْ حبيبتِهِ
وَ الطِّفلُ عنْ أمِّهِ
وَ اللصُّ عنْ مفاتيحِهِ
وَ العَالمُ عنْ حُكَّامِهِ
سَأحدِّثكُمْ بحُبٍّ، بحُبٍّ، بحُبٍّ
بعدَ أنْ أشْعِلَ سِيجَارَة !."
بهذِهِ النَّبرَةِ المُحَمَّلةِ بشَظَايَا منْ الوَاقِعِ المَعِيشِِ ، بنَى رياض نصوصًا تتجَاوَرُ التَّفاصِيلُ فيها ، لبناءِ نصوصٍ ، تُؤسِّسُ شِعريَّتَهَا بتفجيرِ المُفَارَقةِ فى نِهايَاتِهَا ، كَمَا فى هذا النَّصِّ :
" لسْتُ بائعَ خَرْدَواتٍ
وَلا مُهَرِّبَ دخانِ مارلبورو
وَلا أمْلِكُ مُسدَّسًا لأنتحِرَ
وَلا قُنبلةً لأخْطِفَ طَائرَةً
لمْ أبعْ قلبى بالمزَادِ العَلنيِّ
وْلمْ اشْترِ الويسكى منْ السُّوقِ الحُرَّةِ
لمْ أقتُلْ رَجُلاً
وَلمْ أصْفَعْ امْرَأةً بوَرْدَةٍ
فلِمَاذَا... لِمَاذَا
أيَّتُهَا الأحْجَارُ الَّتى لا تُحِبُّ المُوسِيْقَى
كُلَّمَا شَاهَدَنِى حفَّارو القبورِ
يَفْرُكونَ أيديهم بغِبْطَةٍ
وَيَدْعُوننِى لِزيَارتِهِمْ ؟."
وَ يكشِفُ الخِطَابُ الشِّعريُّ لرياض عنْ مجموعةٍ منْ الخَصَائصِ الجماليَّةِ المُتآزِرَةِ ؛ المُتمثلَةِ فى : الجُنُوحِ إلى النَّزعَةِ اليوميَّةِ المَعِيشَةِ ، وَبَسَاطةِ الأدَاءِ الشِّعريِّ وَتَدَاوليَّتِهِ وَشِفَاهيَّتِهِ ، وَتخفُّفِهِ منْ المَوَاريْثِ البلاغيَّةِ المَوْروثَةِ اسْتنادًا إلى بلاغيَّةِ المَشْهَدِ المَعِيشِ، وَوَقائعِيَّةِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ ، وَأسْطَرَةِ المَعِيشِ ، وَالغنائيَّةِ الاستبطانيَّةِ الرَّهيفَةِ ذَاتَ النَّبرَةِ الفَجَائعيَّةِ ، وَالتَّعبيرِ عنْ ذاتٍ فرديَّةٍ بسيطَةٍ هَشَّةٍ وَسَاخِطَةٍ فى مواجَهَةِ جَحِيمِ الوَاقعِ المَعِيشِ ، بنبْرَةٍ تحْمِلُ المَرَارَةَ وَالألمَ البَاهِظَ ، وَلِلْمَوْتِ حضورٌ وَافرٌ فى الحَيَاةِ كَمَا أنَّ لِلْحَيَاةِ حضورًا وافرًا فى المَوْتِ ، فى تجربَةِ رياض ، وَبخَاصَّةٍ فى عملِهِ الشِّعريِّ الأخيْرِ : وَعْل فى الغَابَةِ .
تَحْضُرُالتَّفاصِيلُ الحَيَاتيَّةُ المَعِيشَةُ ، المُنْتَخَبَةُ بدِقَّةٍ ؛ لِتُشَكِّلَ بنيَةً شِعريَّةً مُحْكَمَةً وَمُكَثَّفَةً ، ذَاتَ أدَاءٍ إيقاعيٍّ حَادٍّ ، وَأدَاءٍ لغويٍّ شِفَاهيٍّ رَهِيْفٍ وَمُقْتَصِدٍ :
" غُرْفَةٌ صَغيرَةٌ صَالحَةٌ للحَيَاةِ
غُرْفةٌ صَغيرَةٌ وَ ضَيِّقةٌ صَالحَةٌ للمَوْتِ
غُرْفةٌ صَغيرَةٌ وَ رطْبَةٌ لا تَصْلُحُ لِشَيءٍ
غُرْفَةٌ صَغيرَةٌ فيْهَا :
امْرَأةٌ تُقشِّرُ البَطَاطَا وَ اليأسَ
عَامِلُ باطون لا ينَام أبدًا
بنتٌ تبكِى كثيرًا بدونِ سَبَبٍ
وَ أنَا وَلَدٌ مُشَاكِسٌ وَ غَيْرُ لئيمٍ
لدَيَّ كُتُبٌ وَ أصْدِقاءٌ
وَ لا شَيءَ غَيْرُ ذَلكَ . "
وَيَحْضُرُ الألمُ على نحوٍ كثيفٍ وَمُلحٍّ ، فى خِطَابِ رياض الشِّعريِّ ، مَهْمَا بَدَتْ الحَياَةُ جَمِيلةً :
" نحْنُ مُتَّفِقانِ:
الحَيَاةُ جَمِيلَةٌ
وَالناسُ رَائِعُونَ
وَالطَّريقُ لمْ تنْتَه وَلكِنْ انْظُرْ إليَّ قليلاً فإنَّنى أتألَّمُ
كَوَحْشٍ جريحٍ فى الفَلاةِ. "
وَبالإضَافةِ إلى الحُضورِ الوَافرِ للألمِ ، يحضُرُ المَوْتُ على نحْوٍ كثيفٍ ،وَلا يبدو المَوْتُ لدى رياض نهايَةً للحَيَاةِ ؛ بلْ دخولا فى حَيَاةٍ أخْرَى ، إنَّ فى المَوْتِ حَيَاةٌ أخْرَى ، وَلاينقطِعُ المَوْتَى تمَامًا عن حَيَوَاتِهِمْ الأولى :
" المَوْتَى الَّذين مَاتُوا فى الحُروبِ وَالأوبئَةِ ، فى السُّجونِ وَالطُّرُقاتِ ،
المَوْتَى الذين مَاتُوا بالخِنْجَرِ وَالرّصَاصِ وَالدِّينامِيْتِ ، بِالفأسِ وَحَبْلِ المَشْنقَةِ ،
المَوْتَى الجَمِيلونَ ذَوُو الأسْنَانِ البَاليَةِ
وَالوجوهِ النَّاتئَةِ
تذكَّرُوا وَهُمْ فى قبورِهِم
ضَوْءَ القَمَرِ وَخُضْرَةَ المَرَاعِي
تذكَّرُوا أنَّهُمْ لمْ يَعِيشُوا كَمَا ينبغِي
لمْ يَنْتَبِهُوا إلى الأصْوَاتِ وَالألوَانِ
تذكَّرُوا:
كَمْ قبلةً أضَاعُوا
كَمْ ضَوْءًا أغْمَضُوا عيونَهُمْ كيْلا يَرَوْهُ
كمْ زَهْرَةً لمْ يَزْرَعُوا
كَمْ كلِمَةً طيِّبَةً لمْ يقولُوهَا
المَوْتَى عَرِفُوا رُبَّمَا لِلْمَرَّةِ الأخِيْرَةِ
كمْ هيَ لذيذةٌ
حَيَاةُ الأحْيَاءِ ."
إنَّ المَوْتَى فى حَيَوَاتِهم الأخْرَى ، لاينقطِعُونَ عنْ اشتِغَالاتِهِمْ الَّتى كانَتْ فى دُنياهم ، وَيُقدِّمُ رياض نصوصًا عنْ عَوَالمِ المَوْتَى شَديدَةِ الرَّهافَةِ وَالإحْكَامِ وَالدَّلالةِ ، مِنْهَا نصُّ : الخِنْجَرُ؛ الَّذى يقولُ فيْهِ :
" الرَّجُلُ مَاتَ
الخِنْجَرُ فى القلْبِ
وَالابتسَامَةُ فى الشَّفتيْنِ
الرَّجُلُ مَاتَ
الرَّجُلُ يتنزَّهُ في قبْرِهِ
يَنْظُرُ إلى الأعْلَى
يَنْظُرُ إلى الأسْفَلِ
يَنْظُرُ حَوْلَهُ
لا شَيءَ سِوَى التُّرَابِ
لا شَيءَ سِوَى القَبْضَةِ اللامِعَةِ
لِلْخِنْجَرِ فى صَدْرِهِ
يبتسِمُ الرَّجُلُ المَيْتُ
وَيُرَبِّتُ على قبْضَةِ الخِنْجَرِ
الخِنْجَرُ صَدِيقُهُ الوَحِيْدُ
الخِنْجَرُ ذِكْرَى عَزِيْزَةٌ
منْ الَّذين في الأعْلَى. "
وَمِنْهَا كَذَلكَ نصُّهُ : العَاشِقُ ، الَّذى يقولُ فيْهِ :
" يَحْفُرُ العَاشِقُ بأظَافِرِهِ تُرَابَ القَبْرِ
يَحْفُرُ فى بقايَا التَّاريخِ
يَحْفُرُ مُنذُ ألفِ عَامٍ
يَحْفُرُ لِيَصِلَ
يَحْفُرُ دُونَمَا ألمٍ (المَوْتَى لا يَتَألَّمُونَ)
وَالعَاشِقُ المَيِّتُ يُريدُ الوُصُولَ لمَنْ يُحِبُّ
وَسَيَظلُّ يَحْفُرُ بالأظافرِ وَالأسْنَانِ
تُرَابَ القَبْرِ
سَيظلُّ يَحْفُرُ إلى الأبَدِ ."
وَيوَاصِلُ المَيِّتُ فى حَيَاتِهِ الأخْرَى إنْجَازاتِهِ ، الَّتى انتزعَهُ منْهَا المَوْتُ ، غَيْرَ آسِفٍ على مَا تَرَكَهُ خَلْفَهُ منْ أشياءَ فى حَيَاتِهِ الأولى :
" لمْ يأسَفْ على شَيءٍ
حِيْنَمَا أخَذُوهُ إلى المَقْبَرَةِ
لمْ يأسَفْ سِوَى على المِطْرَقَةِ والأزمِيلِ
على الألوَانِ وَالفُرَشِ
على اللوحَاتِ وَالتَّمَاثيلِ
وَهَا هُوَ الآنَ فى القبْرِ
هيكلاً عظمِيًّا
هَا هُوَ يقومُ جَامِعًا عِظَامَهُ
سَيَصْنَعُ منْ سُلاميَّاتِ الأصَابِعِ
خَوَاتمَ وَأقراطًا
منْ الجُمْجُمَةِ دَوْرَقًا للنَّبيْذِ
منْ العَمُود الفِقريِّ
صُحُونًا وَأكْوَابًا
وَرُبَّمَا يَصْلُحُ عَظْم الكَتِفِ
لِصُنْعِ طَائرٍ. "
وَيكتُبُ الشَّاعرُ فى قبرِهِ ، قَصَائدَهُ وَأقاصِيْصَهُ الَّتى لمْ يُتِمَّهَا فى حَيَاتِهِ الدُّنيَا ، لايكُفُّ عنْ الكِتابَةِ بموتِهِ :
" بريشَةٍ منْ العِظَامِ وِحِبْرٍ منْ الطَّمي
يكتُبُ على جُدْرَانِ قبرِهِ
قَصَائدَ وَرِوَايَاتٍ وَقصَصًا
قَصَائِدَ عنْ الحُبِّ
وَرِوَايَاتٍ عنْ القُرَى وَالمُدُنِ
وَقصَصًا عنْ الأرانبِ وَالعُجولِ
إنَّهُ يكتُبُ مُنذُ أنْ مَاتَ
يكتُبُ رَغْمَ أنَّ أحَدًا لا يقرَأُ مَا يكتُبُهُ
يكتُبُ دُونَمَا توقُّفٍ ، يكتُبُ برَغْبَةٍ ،
بانْدِفاعٍ لا يفعلُ شيئًا سِوَى الكِتَابَةِ
يكتُبُ رُبَّمَا لأنَّ الكِتابَةَ فِعْلُ حَيَاة ."

وَيَجْنَحُ الأدَاءُ الشِّعريُّ الغِنَائيُّ إلى أسْطَرَةِ التَّفاصِيلِ المَعِيشَةِ وَتشْكِيْلِ الصُّورِ الدَّالةِ ، عَبْرَ التَّوسُّعِ فى إعْمَالِ مِخْيَالٍ خَلاَّقٍ ؛ لِتَجْسِيدِ حَالةٍ شِعريَّةٍ مُشِعَّةٍ بالدّلالاتِ ، كَمَا فى قولِهِ :
" الذِّئبُ الَّذى افترَسَنِي
تَرَكَنِى وَحِيْدًا فى الغَابَةِ
مَنْ يُغطِّى جُثَّتِى بالأعْشَابِ
بأوْرَاقِ الأشْجَارِ اليَابسَةِ
بقليْلٍ منْ تُرَابٍ ؟
مَنْ يقرَأُ الفَاتِحَةَ على رُوحِي
مَنْ يُغْمِضُ عينيَّ الهَلِعَتيْنِ
مَنْ يَضَعُ على صَدْرِي
صَلِيْبًا منْ أزْهَار؟
الذِّئبُ الَّذى افترَسَنِي
صَارَ أنَا
أخَذَ وَجْهِى الشَّاحِبَ
وَ شَفَتَيَّ المُرْتَجِفتيْنِ
وَ قلبِى الطَّيِّبِ
وَ ظلَّ مُحْتَفِظًا بأنيَابِهِ
أنَا الذِّئبُ
ذُو اليَدِ البَيْضَاءِ
أدُورُ فى المَدِينَةِ وَ أعْوِي
أنَا الَّذى قَتَلَ الصَّيَّادَ فى الغَابَةِ
أنَا الصَّيَّادُ
احْذَرُوا حُبِّي
وَ احْذَرُوا أنْيَابِى . "
إنَّ الأدَاءَ الشِّعريَّ فى خِطَابِ رِياض الصَّالح الحُسَين لايَزَالُ على طَزَاجَتِهِ ، على الرَّغمِ منْ مرورِ أكثر منْ ثلاثَةِ عقودٍ على رَحِيْلِهِ ، بلْ هُوَ يقترِبُ أكثرَ منْ رَاهِنِ الشِّعريَّةِ العَرَبيَّةِ الجَديدَةِ ، وَبالفِعْلِ كَانَ رِياض أحَدَ الآبَاءِ الأسَاسِيِّينَ لِشُعرَاء تَحَوَّلُوا بشَكْلٍ جَمَاعيٍّ مُنْذُ نِهايَاتِ الثَّمانينيَّاتِ إلى شِعريَّةِ اليَومِيِّ وَالتَّفاصِيليِّ وَالمَعِيشِيِّ وَ الشَّخصَانِيِّ وَالبَسِيطِ المُهْمَلِ ؛ الَّذى عَاشَ مُهَمَّشًا طويلا ، وَجَعَلُوا الهَامِشَ مَتْنًا ، فى حِرَاكٍ شِعريٍّ كَثِيفٍ ، لايَزَالُ حَاضِرًا بقوَّةٍ ، فى مَشْهَدِ الشِّعريَّةِ العَرَبيَّة الجَدِيدَةِ .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.