ربما سنعود مرة أخري إلي نقطة البداية مع ثورة الخامس والعشرين من يناير2011, تلك الثورة التي شكلت نقطة زمنية فارقة كاشفة بانية, وقدمت نموذجا فريدا في خصائصها وأهم سماتها تمثلت في سلميتها وقدراتها الابتكارية. , فضلا عن قيادة المطالب لها, إذ لم يكن لها كيان قيادي محدد, وكانت هذه الأمور عنوان قيامها ومناط نجاحها والتي توجت بإزاحة الطاغية وتنحية المخلوع. وفي أثناء تلك الثورة وبالتحديد في جمعة الغضب في الثامن والعشرين من يناير كان من مظاهر هذا السقوط جهاز أمني ارتبكت أموره وساءت صورته, وانكسر بطشه, ذلك الجهاز ارتبط بالمستبد شخصا وصنما يخدمه, وفي عرفهم يؤمنه, السلطة محط عمله, وجل اهتمامه, وصار جهاز الداخلية, جهازا لإحكام بطش السلطان واستبداد النظام, وتحولت الملفات له الملف تلو الآخر تحت عنوان رأي الأمن, معظم الملفات وإن لم تكن أمنية صارت كذلك, وكانت تلك البروج المشيدة التي صورها هؤلاء لحماية السلطة والسلطان, والتي كشفت ثورة الخامس والعشرين من يناير أنها بيوت العنكبوت, وهي من أوهن البيوت وأضعفها, وصار الأمن في علاقته بالناس تقوم علي قاعدة صناعة جدار عال من الخوف, وفي جمعة الغضب انهار الجدار تحت نداء الشعب يريد وفي هذه اللحظة كان الخيار الذي استحسنه الناس في حينه أن تتولي مؤسسة القوات المسلحة ممثلة في مجلسها الأعلي مهمة تسيير البلاد في مرحلة انتقالية, وتصور الجميع أن العودة إلي البيوت كانت إيذانا بمرحلة جديدة تمكن لإعلان واعلاء ثورة مباركة, وفاتحة خير, وبداية تطهير, واستشراف مرحلة بناء وتعمير. وكان من أهم المعايير التي حركت هذا الخيار هو أن القوات المسلحة كمؤسسة تملك عناصر القوة اللازمة لتحقيق الأمن والتمكين لهيبة الدولة, بالاعتبار أن الثورة تحدث خلخلة مؤسسية يجب البحث عن مؤسسات قائمة, للقيام بعمل في مرحلة انتقالية قادمة, خاصة حينما تعلن هذه المؤسسة ممثلة في مجلسها العسكري أنها تتبني مطالب الشعب وتحميها وتقف إلي جانب الثورة وتحفظ مكاسبها. إنه الأمن ولا شئ غيره كان المهمة الأولي, وتأمين الثورة واستمراريتها كان الدور الأهم, وبدت كل خرائط الإدراك ومن كافة الجهات ومن معظم التوجهات تسير في هذا الطريق الذي يؤسس لنهضة جديدة لمصر. تعي طبيعة المهمة, وانتقاليتها واستثنائيتها, لم يكن الأمر في حاجة لمزيد من التفلسف. ومر عام من الثورة أو يزيد والملف الأمني الذي ليس له من معيار لقياس التقدم فيه سوي إحساس الناس بشبكة الأمان الفعال: أطعمهمم من جوع وآمنهم من خوف, إنها معادلة البداهة في ضرورات الشعوب. المرحلة الانتقالية تطول, والملف الأمني يسوء, والانفلات يتفاقم وتتحرك الأمور نحو سيناريو الفوضي, بعد أن كانت عبقرية الثورة استطاعت أن تؤمن هذا البلد طيلة فترة قرر الشعب أن يحمي نفسه إلي أن ينوب عنه من يقدر علي القيام بالمهام وإنجاز الأدوار وتحقيق المقاصد في الأمن والتأمين. وكان عنوان ذلك التعاقد مثلث السلطة الفعال الذي مفاده: كلما زادت السلطة زادت المسئولية, وكلما زادت المسئولية زادت المساءلة, ليس ذلك في حاجة إلي حجة لإعماله, ولا برهان لإمضائه, ولا دليل لإرسائه, إنه شعب الثورة حينما يكلف بالمهام, والأمور العظام التي تنهض بشأنه وتسير أموره وتيسر ضروراته. السلطة والمهمة والإنجاز والفاعلية عنوان هذا التعاقد, الوقت يمر والأحوال تسوء, والمسئول هو من تصدي للمهمة وأوكل له القيام بها وعليها. وفي هذه المعادلة الخطيرة تبرز ثلاثية أخري تتمثل في: مثلث العجز, والفشل, والتواطؤ, وهو سواء في النتائج التي تؤدي لاستمرار حالة الانفلات الأمني, ومؤشرات الفوضي الشاملة التلي تلوح في أفق الوطن. فالأمر في أوان الثورة وفي مراحل الانتقال لا يحتمل العجز, ولا يقر الفشل, ولا يقبل التواطؤ. لأن ذلك سيحرك كل أعداء وخصوم هذه الثورة من الجحور, ويرسخ من فعلهم, وتتحرك كل أدوات الدولة العميقة لتحمي تحالفاتها الاجتماعية ومصالحهاالأنانية في شبكة الفساد والإستبداد. وتخرج هذه القوارض الاجتماعية لتقرض شبكة النسيج والعلاقات المجتمعية التي تشكل رأسمال هذا الشعب المجتمعي الذي يؤسس لأمن أمة وحماية وطن وتأمين مواطن, مواجهة هذه القوارض أمر لابد أن يقوم به كل أحد في كل ركن في الوطن. تعالوا إذن نفتح هذا الملف الخبيث والكتاب الأسود للإنفلات الأمني من تأليف اللهو الخفي وشهرته الطرف الثالث وفي روايات أخري القلة المندسة, ومن إخفائه أو التمويه عليه تعددت أسماؤه, وشبكة فساد واستبداد تحمي أدواته وأداءه. في هذا الكتاب سنجد مقدمة حول منهج الإنفلات, ومسالك الفوضي وصناعة الفرقة تمهيدا لتصنيع الإنهيار, وفي صفحاته الأولي جدول زمني للفوضي, وكنا نتمني أن يكون جدولا زمنيا للانتقال والإصلاح والتطهير والتغيير. تقرأ فيه وكأن من ينفذه يدبر الأمر ممنهجا: السطو علي محلات الصرافة والبنوك ثلاثة أيام, السطو علي العربات الحاملة للأموال ثلاثة أيام, خطف السياح ثلاثة أيام, خطف الأطفال ثلاثة أيام, الملف الطائفي ثلاثة محافظات علي ثلاثة أيام, الملف القبلي ثلاثة أيام, الملف الإقليمي والتنازع المحلي ثلاثة أيام, افتعال أزمات البنزين والبوتاجاز وأنابيب الغاز ثلاثة أيام, وهي جميعا تمتد آثارها أياما أخري وقابلة للزيادة. كل ذلك يصب في شبكة الفوضي وإشاعة الإحساس بعدم الأمن والأمان. كتاب الانفلات الأمني الرهيب والبقية تأتي, والمجلس العسكري يدير الأمور بالكوارث, الثوار بلطجية وتشويههم صار سياسة, وميدان التحرير ليس رمزية للثورة بل هو بؤرة للتسكع والبلطجة, والمعتصمون يعطلون عجلة الإنتاج التي سرقت من نظام مبارك المخلوع وأعوانه والتي صبت في جيوبهم وجيوب غيرهم, وتركوا لنا الفتات إن تركوا!!!! وعمليات التصفير علي قدم وساق: تصفير الاحيتاطي النقدي, تصفير العلاقات الإقليمية والدولية وتأزيمها, تصفير السياحة, التلكؤ في المحاكم وإصدار الأحكام, التلكؤ في انتخابات الرئاسة, التلويح بخطط لحل البرلمان لشبهة عدم الدستورية, مجلس الشوري سيجتمع بالثلثين في مهزلة تتحدث عن مؤسسة بكيان ناقص أو منقوص ليعبر عن قبول القانونيين بأكبر عملية تهريج سياسي, وحكومة إنقاذ هكذا أسميت لتتحول لحكومة عجز وفشل بأداء هزيل حتي يتساءل البعض حكومة إنقاذ لمن؟ لأصحاب الدولة العميقة وأدواتها. أم لمن؟ المؤسسات الكبري التي تدير الإنقاذ والتغيير وعمليات الإصلاح المفروض أن يكون جذريا, تسير بإدارة الفساد( الأمانة العامة لمجلس الوزراء) هي التي كانت تديره في عهد النظام البائد,( وأمانة مجلس الشعب) علي رأسها شخص ممنوع من السفر ومطلوب في الكسب غير المشروع, ألا تري مهزلة أكبر من ذلك, ومشهد هزلي أكثر من ذلك. عمليات التصفير; تصفير الميدان, وتصفير الوجود الأمني في الشارع, وهيكلة الأمن الموعودة والمزعومة والموهومة التي طال انتظارها.ومعركة الرئاسة الآن تدار بالسلاح وبسيارات البلطجة علي الدائري والطريق الزراعي, الدكتور عبد المنعم أبو االفتوح تدق رأسه بخلفية رشاش, وسائقه يضرب, وكيل لجنة الصحة بمجلس الشعب الذي أعلن في المجلس وخارجه وكذا رئيس اللجنة أنهما هددا بالقتل إن سارت اللجنة في مسار نقل الرئيس إلي محبسه الطبيعي بعد أن حولوه لقاضيه الطبيعي, ولا الطبيعي هنا ليست سكه سالكه ماضية, هي سكة انتقاء من أهل السلطة والمتنفذين, وانتقل الاتهام من الرئيس المخلوع وعصابته إلي من قاموا بالثورة, وحتي من سقط شهيدا لم يسلم بعد ذلك.. من أدراك لعله بلطجي؟!, البلطجية أنتم تعرفونهم بالإسم والصفة والدور. معركة الرئاسة الدائرة بالبلطجة والسلاح هي حول الرئيس المخلوع الذي لا يريدون نقله إلي ليمان طره محبسه الطبيعي, وأعلنوا أنهم سيقتلون في سبيل منع ذلك. والرئيس المحتمل فلتدق رأسه وعنقه في عمليات تأديب لكل من يجرؤ علي الحديث عن ثورة الشعب وشعب الثورة. ما بين الرئيس المخلوع وعصابته والرئيس المحتمل وترهيبه, والرئيس التواطؤي وصناعته; تدار انتخابات لا ليقول الشعب كلمته ويترجم إرادته, بل لتقول الدولة العميقة والأجهزة الأمنية; من يكون الرئيس, ولعل قولة أن الديكتاتور يمكن أن يعود في ظل هذا المشهد الهزلي بالعمل بثلثي مؤسسة, وبلجنة لا معقب عليها, وبانفلات أمني صرنا ندار به, وبمجلس شعب مكبل ومهدد بالحل, وبلسان حال الناس وكأنه من يحكمنا الآن يقول لنا: مرت الهوجة, كما كنتم, أنتم صدقتم أنفسكم!!! نقول لكل هؤلاء من غياهب الدولة العميقة لن نترككم, وسنحاسبكم, وليس ما حدث بالهوجة, إنها الثورة, ولن نعود كما كنا, لأنها الكرامة والعزة, ونحن نصدق أنفسنا وسنصدق ثورتنا بالعمل والفعل والفاعلية, رغم أنف هؤلاء والذين ركبوا الثورة أو التفوا حولها, وسنستمر علي طريق الثورة حتي لو قتلنا في مواجهة هذا السيناريو الأسود. المزيد من مقالات د.سيف الدين عبد الفتاح