فى مسرح دار الأوبرا بباريس، جلس الشاب الثلاثينى مونتوفانى فى انتظار بدء العرض. جلس واثقا رغم القلق الذى كسى وجهه. فلأول مرة فى التاريخ الأوبرالى تصير السيرة الذاتية لشاعرة روسيا العظيمة آنا أخماتوفا عملا أوبراليا. ظهرت كبطلة نسائية مفعمة بالأنوثة والبراءة والرومانسية فى مواجهة عالم حاقد. وقد نال العمل الذى شارك مونتوفانى فى كتابته كريستوف كريستى استحسان الجميع واعتبر من أفضل الأعمال الأوبرالية لهذا العام. ولدت أخماتوفا (1889 - 1966) فى ضاحية بالشوى فانتان بأديسيا بأوكرانيا، لأب يعمل مهندسا فى البحرية القيصرية. قضت طفولتها وبعض شبابها فى تسارسكوى سيلو على مقربة من سانت بيطرسبرج، ذلك المكان الذى نشأ فيه شاعر روسيا العظيم بوشكين الذى كانت تكن له كل تقدير واحترام. وقد كان للبيئة شبه البرجوازية التى نشأت فيها تأثيرا كبيرا عليها، فأتقنت آنا اللغة الفرنسية فى سن مبكرة، كما قرأت دانتى بالإيطالية وأعمال عمالقة الشعرالروسى نيكراسوف وديرجافين. بزغ نجمها مع نشر أول قصائدها فى سن مبكرة وغطت شهرتها الأفق حتى أنها تجاوزت شهرة نجوم لامعة من أدباء وشعراء روسيا القيصرية. استقر بها الحال بعد انفصال والديها فى كييف حيث درست الحقوق ثم التحقت بكلية الآداب فى بيطرسبرج. وتعرفت آنا على زوجها جوميليف نيكولاى حين كان عمرها 14 عاما، واستمرت العلاقة حتى جاء عام 1909 ليطلب يدها رسميا. تم عقد القران فى ابريل من عام 1910 ليسافر بعدها العروسان فى جولة بين باريس وايطاليا حيث رسمها الفنان الإيطالى موديليانى فى لوحة شهيرة. وقد أخذت آنا لقب "أخماتوفا" من جدتها الأميرة التتارية حيث رفض والدها أن تذكر لقب جورينكا. صنعت أخماتوفا مع زوجها جوميليف ثنائيا مبهرا، حيث أسسا حركة شعرية جديدة تسمى "الأكمييزم" تناهض الرمزية التى سيطرت على المشهد الشعرى فى ذلك الوقت، وصنعا ما يسمى ب "القرن الفضى للشعر" بعد "القرن الذهبي" لبوشكين. نشرت أول مجموعاتها "المساء" عام 1912 ثم "المسبحة" عام 2014 ومجموعتها الثالثة "الطائرة البيضاء" عشية الثورة. رزقت أخماتوفا بطفل سمته "ليف"، والذى صار بعدها مؤرخا معروفا. تم القبض على ليف وقضى عدة سنوات فى معسكرات الجولاج حيث مات زوجها الثالث نيكالاى بونين. ورغم أن آنا كانت ضد الثورة البلشفية حيث كتبت "نهب وبيع كل شيء، والكل يعانى من الاسى والجوع"، إلا أنها لم تستمع لنصائح المقربين بمغادرة روسيا حتى بعد إعدام زوجها من خلال البوليس السرى بتهمة التآمر ضد البلاشفة، هذا رغم سيطرة الفكرة عليها احيانا حيث ذكرت هذا فى احدى قصائدها: صوت أتاني. دعانى حانيا قال "تعالى هنا، اتركى أرضك الصماء الآثمة، اتركى روسيا للأبد، سأغسل الدم من يديكي...." يصنف النقاد أخماتوفا كشاعرة حداثية ثائرة، أعمالها بين القصائد الغنائية القصيرة والمعمار الدائرى المعقد، مثل قصيدتها "قداس جنائزي" رائعتها التراجيدية التى تحدثت فيها عن ارهاب السنوات الستالينية. تقول فى مقدمة القصيدة: "خلال سنوات الارهاب الرهيبة، قضيت سبعة عشر شهرا سجينة فى لينينجراد. ثمة شخص وشى بي. سألتنى أمرأة تقف خلفى بشفاه زرقاء، بالطبع لم تسمع باسمى من قبل، عاد لها وعيها، همست فى أذنى (هناك يهمس الجميع): هل يمكنك وصف ما يجري؟ أجبت: نعم. حينها ارتسمت شبه ابتسامة على هذا الذى كان يوما وجها.. " من أبيات القصيدة: أمام هذا الحزن تنحنى الجبال، ويتوقف النهر العظيم عن الجريان، لكن أبواب السجن منيعة.. خلفها جحور السجناء، وكآبة مميتة. وتعتبر قصيدة "قداس جنائزي" من أروع ما كتب من شعر بالروسية إن لم تكن واحدة من أهم قصائد القرن العشرين دون مبالغة. صرخة ألم وحزن لمبدعة ثورية وأم مكلومة تعرض ولدها للاعتقال عدة مرات، حيث بلغت سنوات اعتقاله اربعة عشر عاما كاملة، وطردت من عضوية اتحاد الكتاب السوفيتي، وحظرت السلطات السوفيتية نشرأعمالها لمدة عشرين عاما. وحين مات ستالين رددت آنا عبارتها الشهيرة: "سيعود المعتقلون الآن، وسينظر كل معسكر للآخر: معسكر من قام بالاعتقال ومعسكر نزلاء المعتقلات. إنه عصر جديد يبدأ." وعن علاقتها بالشعر، قالت فى سيرتها الذاتية: "لم أكف عن نظم الأشعار. أجد فيها رباطا بالزمن والحياة الجديدة لشعبي."
مقولة شهيرة: "الشجاعة: كلمة روسية عظيمة، تلائم أغانى أحفادنا، نقية وهى تجرى على ألسنتهم، حرة"