الفساد ليس كله رشوة، ولا محسوبية، لكن ضياع حقوق الناس فساد، وحرمان البعض من فرص يستحقونها فساد، وتوريث الوظائف فساد. ففى الوقت الذى كنا فيه نقاوم توريث الوظيفة الأولى بالدولة لابن رئيس الجمهورية كانت اغلب مؤسسات الدولة قد أذعنت لفكرة توريث الوظائف لأبناء العاملين بها، بحيث أصبحنا الآن أمام مؤسسات ضعيفة لم تتشكل بمعيار الكفاءة، وإنما بمعيار «الأقربون أولى بالوظيفة» وهو معيار باطل قانونا، فضلا عن كونه حراما شرعا. لقد وصل الأمر إلى خروج مظاهرات فى بعض الجهات الحكومية تنادى بتعيين مايطلق عليه أبناء العاملين، حيث أصبحت التعيينات فى معظم وزارات ومؤسسات الدولة حكرا على عائلات معينة، أومن لديهم واسطة أومحسوبية. ولم يعد الترقى المهنى والوظيفى قائما على التحصيل العلمى والكفاءة والخبرة، بل نتيجة القرابة والعلاقات الشخصية والمجاملات. وتحولت الوظائف للأسف إلى ميراث وحق مكتسب من الآباء إلى الأبناء لدرجة أننا نجد فى بعض الأحيان الأب فى نهاية الكرير وأبناءه متدرجين خلفه. ونتيجة لصمت الدولة عن ابتزاز العاملين للوزراء ورؤساء الهيئات والمؤسسات، ورغبة من القيادات فى استقرار الأمور والأوضاع خلال فترة رئاستهم خضع الجميع لمبدأ تعيين أبناء العاملين فى كل الوظائف الخالية، وتركت الحكومات خلال السنوات الماضية الحبل على الغارب، فمنحت من لايملك الحق فى تعيين من لايستحق. واتسعت الدائرة فى كثير من الوزارات والمؤسسات لتشمل إلى جانب الابناء الأخوات والأزواج دون أدنى رقابة أومحاسبة من أى جهة أو مسئول لوضع الشخص المناسب فى المكان المناسب، مما أدى إلى تراجع الأداء فى كل القطاعات، وامتلأت المكاتب بغير المؤهلين. حتى المهن التى تعتمد على أداء الفرد وإبداعه أصيبت هى الأخرى بذات الداء، فلم يعد هناك مبدعون ولامفكرون، واختفت روح المبادرة والمبادأة، ولم نجد إلا المزيد من الفشل الذى يتفشى كالوباء فى كل قطاع. وهنا مكمن خطورة غض الطرف عن هذا التوريث غير المشروع وغير الشرعى. إن الأصل فى الوظائف الحكومية وغير الحكومية أن يكون لها مواصفات وشروط ،وان يفوز بها الأجدر والأكفأ، ولكن الأمر يختلف على أرض الواقع تماما، فهناك أشكال من التحايل يستطيع بها من لاتنطبق عليه الشروط الالتحاق بوظيفة ما. وأحد هذه الأشكال هو الإعلان الداخلى، والعقد المؤقت لحين التثبيت. وهذا التحايل يظهر أيضا فى المستويات الوظيفية العليا خاصة فى الجهات المتميزة التى تعطى لصاحبها قيمة اجتماعية مرموقة. ولايزال هذا الوضع قائما حتى هذه اللحظة ،وهو الأمر الذى يعرض شبابنا للإحباط والظلم والحسرة فإلى متى تغتال «الواسطة» والمحسوبية أحلام الشباب الحاصل على مؤهلات عليا ويقف فى طابور البطالة ينتظر الفرصة التى ربما لاتجىء. وإذا كان الرئيس عبدالفتاح السيسى قد حسم مشكلة الحد الأدنى للأجور فى الحكومة ووحدات الادارة المحلية والهيئات العامة وغيرها، فإننا نطالبه بأن يحسم قضية الحصول على الوظائف بالتوريث التى كانت ومازالت فى معظمها وأهمها توزع بطرق غير موضوعية وبالمخالفة للدستور الذى أكد أن الوظائف العامة حق للمواطنين، وتكليف للقائمين بها لخدمة الشعب، وتكفل الدولة حمايتهم وقيامهم بأداء واجباتهم فى رعاية مصالح الشعب، ولايجوز فصلهم بغير الطريق التأديبى إلا فى الأحوال التى يحددها القانون.وموظفون بهذا الوصف لابد أن يختاروا على أساس الكفاءة ودون محاباة أو وساطة. مطلوب فى مصر الجديدة تطبيق الدستور وإقامة دولة القانون القائمة على العدل والمساواة بين جميع المواطنين، وإلزام الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تمييز أوتفرقة، وأن تكون المفاضلة فى الكفاءة فقط. ومحاربة الفساد لاتحتاج جيوشا ولا أسلحة، لكنها تحتاج إلى ضمائر يقظة وقرارات شجاعة. لمزيد من مقالات عبد المعطى أحمد