درجنا على نوعين من الكتابة السياسية تناسلا وتكاثرا فى وسائط النشر المطبوعة فى مصر على امتداد عهود وعقود. أحدهما يحترم دائرة معارف كاتبه، ويؤسس آراءه على ما يعرفه آمر القلم بيقين. وثانيهما يخترق حدود ما يعرف الكاتب وربما ما يفهم ليغرد بلا احتشام فى فضاء من الإنشاء، ويحلق إلى أعالى سماء عواهن يلقى عليها الكلام بلا مسئولية أو خجل. وبتأكيد فإن النوع الثانى راج وازدهر وانتشر وصار سائدا فى ساحة النقد والتحليل والكتابة السياسية، حتى باتت هواجس الشك وانعدام الثقة هى الأكثر حضورا فى نفس وعقل القارئ، تدفعه أن يردد هامسا لنفسه، بدهشة متسائلة عن مدى حقيقية ما يطالعه سطورا فى نص، أو فقرة فى متن. وأظن المقدمة السابقة كانت احترازا واجبا قبلما أدخل الى الموضوع الذى حددته لمقالى اليوم، مشيرا الى أنه لا يتكئ على معرفة فنية تخصصية فى السلاح، وانما يستند الى قواعد المنطق وأصول السياسة، وفى ذلك الإطار فحسب ينبغى أن يقاضيه قارئه، ويصدر الأحكام. لا بل ربما أتحسب قبل البدء كذلك، مشيرا الى أن ما أسطره اليوم ليس نتاجا لمعلومات عرفتها عن توجه، أو أخبار وقعت فى يدى عن سياسة، وبالتالى فهو مجرد تأمل شخصى اخترق الحدود التقليدية التى تعودنا فى مصر أن يكون عبورها من المستحيلات. إذ إندلعت الأزمة الكبرى التى شهدتها العلاقات المصرية - الأمريكية يوم الأحد الخامس من فبراير الحالي، بعد الإحالة الى محاكمة مرتقبة أمام الجنايات لتسعة عشر أمريكيا، بين أربعة وأربعين ناشطا فى قضية التمويل الأجنبي، التى أشار فيها قاضيا التحقيق بمؤتمرهما الصحفى يوم الأربعاء الفائت، الى أن الأوعية التى دارت التحقيقات حولها هى فروع لمؤسسات دولية وليست هيئات مجتمع مدني، وكذلك فإن ما كانت تقوم به هو مهام سياسية وليس عملا أهليا على أى مستوي، وفى غمار تلك الأزمة المحتدمة التى ثارت مع ذلك القرار، انسحب وفد عسكرى مصرى من مباحثات كان يجريها فى واشنطن، وتكلمت الولاياتالمتحدةالأمريكية لغة الهيمنة فى أكثر أشكالها عنجهية، محاولة أن تمارس ما أسميه: (الرصف السياسي) إشارة الى أعلى درجات الضغط، وتمثل ذلك فى الخطاب الذى تبناه بالذات ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ: جون ماكين وجوزيف ليبرمان وكيلى أيوت. وعلى الجانب الآخر، كعادة واشنطن فإنها نوعت لغتها بين تشدد وليونة، وبدا ذلك واضحا فيما رشح من زيارة لرئيس قيادة الأركان الأمريكية المشتركة مارتن ديمبسى يوم الجمعة الماضي حيث كانت تصريحاته العلنية لطيفة، فيما الحوار فى الغرف المغلقة محتدماً، وترافق مع ذلك أيضا الموقف الصلب المبادر الذى اتخذه المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى تلك القضية، وبيقين أسس ذلك لسابقة فى تاريخ العلاقات المصرية الأمريكية، بما أثار الاستغراب والدهشة والتوقع. وفى باب المفاجأة التى أخذت الأمريكان جراء موقف السلطة العسكرية فى مصر، تناثرت تلويحات بإيقاف المساعدات العسكرية البالغة 3و1 مليار دولار سنويا، وهو ما يعنى بقول واحد إضعاف إمكاناتنا الدفاعية فى مواجهة أخطار مروعة تستهدف الأمن القومى المصري، وبما لا يمكننا من الاحتكام للسلاح فى أية مواجهة محتملة، الأمر الذى فتح الأبواب أمام تكرار الجدلية التقليدية عند بعض الكتاب والخبراء ووسائط الإعلام حول عدم جدوى الدخول فى خلاف مع واشنطن، طالما نحتاج الى السلاح الأمريكي، باعتبار تلك المسألة فزاعة ينبغى أن تردع صاحب القرار المصرى زاجرة اذا فكر بطريقة مستقلة، أو تقاطع مع الارادة الأمريكية فى موضوع بالذات. والحقيقة أننى كنت دائما على وشك طرح فكرتى عن السلاح والأمريكان كلما ثارت أزمة فى إطار العلاقات المصرية الأمريكية، ولكن حساسية تلك العلاقات، وتضاغطات تفرضها الظروف والتوقيتات كانت تدفعنى للتأجيل، إلا أن هذه الأزمة الراهنة بالذات والتلويح بإيقاف المعونات العسكرية الأمريكية فى وقت تهديدات كبيرة تترصد أمننا عبر كل حدودنا شرقا وغربا وجنوبا، دفعتنى الى المسارعة بطرح ما فكرت فيه تحليقا منطقيا حرا يخترق الحدود، وأعنى التوجه نحو تنويع مصادر التسلح من جديد، والانفتاح على أفكار تبدو مستحيلة عن التسليح الشرقى لمصر، ذلك الذى اعترفنا به يوم حرب اكتوبر حين اتصل السادات بالسفير السوفيتى وقتها فلاديمير فينوجرادوف شاكرا موسكو ومؤكدا نجاح السلاح السوفيتي، وهو نفسه السلاح الذى أساء الرئيس المصرى إليه حين قرر السادات فض تحالفه مع موسكو وتوليه الوجوه شطر واشنطن، حتى أنه فى حديث الى الأستاذ إبراهيم سعدة رئيس تحرير جريدة الحزب الحاكم وقتها (مايو) أرجع سقوط الطائرة الهليكوبتر «مى 8» التى استشهد فيها المشير أحمد بدوى وثلاثة عشر من القادة الى أنها طائرة (بليدة)! اليوم يعج الفضاء الدولى بمعلومات واحصاءات عن السلاح الروسى الذى يتجاوز فى كثير من المجالات كفاءة السلاح الأمريكي، وصرنا نسمع عن الطائرات «الميج» 29 31 35، و«إلياك» 141، و«سوخوي» 27 35 47، والقاذفات الاستراتيجية «تى يو» 160، والطائرات العمودية «مي» 28، وتلك الطائرة أفضل من «أباتشي» الأمريكية، وبعض طرازات الميج أفضل من إف 61، فضلا عن الصواريخ «اس 300» و«اس 400» المصنفة أفضل من «باتريوت» الأمريكية، وبالإضافة فإن إشارات المراجع العسكرية لا تتوقف عن كفاءة الصواريخ «سام» 10 و«سام» 19، كذلك الغواصات الحديثة «ديمتري» و«اليوري» والدبابات المدهشة «ت 90 اس». ونحن بالقطع نستطيع تنويع مصادر التسليح بما يمكننا من الحفاظ على أمننا القومي، ومن دون عداء لواشنطن أو مقاطعة، فالأمريكان هم الذين بدأوا فى التصعيد والتهديد بما يمس قدرة البلد الدفاعية، وكبريائها الوطني، ومعنى الاستقلال فى ذاته. الاستقلال الذى هو قيمة رائعة شفيفة تضوى فى سماء البلد، ولا نرضى بديلا عنه بالتبعية، وهى قيمة معتوتمة متأزمة تريد أن يتعطل فعلنا لنبقى أسرى فى أيدى الأمريكان! المزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع